بازگشت

ادعاء الجبر الالهي، السلاح الأموي المضلل


لقد اتخذ الأمويون (الارادة الالهية) وسيلة لتمرير مفهوم شاع بين الناس و أصبح له أتباع و أنصار، و كان مفهوم الجبر الالهي الذي رد كل شي ء الي ارادة مباشرة من الله عزوجل، و جعل البشر - علي أساسه - غير مسؤولين عن أفعالهم، سلاحا بيد الأمويين حاولوا به اسكات الجهلة و البسطاء من أبناء الأمة، و كانت ايحاءات معاوية التي أشرنا اليها من قبل دليلا علي توجه الدولة لتعزيز هذا الاتجاه الذي غالبا ما ينجح في غياب التصور الاسلامي الصحيح و في غمرة تقاعس علماء الأمة و مفكريها عن أداء واجباتهم لشرح كل مفاهيم الاسلام كما جاءت حقا، لا كما أراد لها المحرفون و المضللون و فقهاء الدولة المحترفون المرتزقة.

فابن زياد هنا يقول لمسلم ان الله لم يرك أهلا لهذا الأمر فحال دونه و جرت بذلك قدرته.. و رآني و سيدي يزيد جديرين به فجعله لنا، و لو لم نكن كذلك لما منحنا ذلك و لما تمتعنا بهذا الملك الطويل العريض.


فقد كان سعي مسلم - بنظره - اذا مجرد أمينة لم يشأ الله تحقيقها..

و كأن مسلم أراد ملكا أو امرة لنفسه ليتمتع كما يتمتع ابن زياد و يزيد و كأنه لم يكن صاحب رسالة و مبدأ كبير... و كأنه لم يعرف من كان أهلا لتحمل مسؤولية الأمة و قيادتها (فمن أهله يا ابن زياد؟) [1] هكذا تساءل متعجبا.

و أجاب ابن زياد بوقاحة: (أميرالمؤمنين يزيد). [2] .

و لعل الوقت لم يتح لمعاوية لاستبدال هذا اللقب، لئلا يكون مثار سخرية الأمة و غضبها، و الا فأي مؤمنين يزيد أميرهم؟ أليس ادعاء ذلك من ضروب البلاء التي لا يحمد سوي الله عليها، و هو الذي لا يحمد علي مكروه سواه؟ و هو الذي يحكم بين عباده بعد كل شي ء؟

(الحمدلله علي كل حال، رضينا بالله حكما بيننا و بينكم). [3] .

هكذا أجاب مسلم، مستسلما لقضاء الله و أمره، لا ليزيد و لا لابن زياد.

و هنا ربما ظن ابن زياد أن مسلم قد أفحم و عدم الحجة فأراد استفزازه اكثر مما فعل و سأله: (كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا؟). [4] .

و هل هو الظن؟ انه اليقين و هو واثق من ذلك لا يساوره شك فيه، قال: (و الله ما هو بالظن، ولكنه اليقين) [5] ،

هكذا أعلن قضيته بكل وضوح، و أعلن حق الامام عليه السلام بقيادة هذه الأمة و زعامتها لكي تتخلي عن يزيد و عن كل النماذج المشابهة له و تعود الي خط الاسلام الصحيح، و من أجدر من الحسين عليه السلام بموقعه و مكانته من الأمة و قربه من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أميرالمؤمنين عليه السلام و علمه و صفاته الفريدة، للقيام بهذه المهمة الدقيقة لانتشال الأمة من الظلم و الانحراف و قيادتها نحو الاسلام و وفق مبادئه و شريعته؟

أيمكن أن يقيس أحد يزيدا بالحسين عليه السلام؟ و هل هناك وجه للمقارنة بينهما؟


هل اذا أتيحت الفرصة ليتغلب يزيد علي العرش الذي مهده له أبوه، أصبح وجوده شرعيا رغم أنه فاسق لأن فقهاء الدولة قالوا بجواز امامة الفاسق و المفضول و عدم جواز التخلي عن بيعته باعتبار أنه قد جمع الأمة و حافظ علي وحدتها؟ حتي لكأن تلك الأحاديث المزورة بدت مفصلة علي مقاس يزيد و من هم علي شاكلته.!

كان جواب مسلم رفضا قاطعا لدولة الظلم و رمز الظلم، و لعله في موقفه ذاك الذي أراده فيه ابن زياد أن يبدو ضعيفا متخاذلا، أشد قوة من أي وقت مضي، و لنا أن نتصوره يتحدث بذلك الشكل و سيف الجلاد مصلت فوق رأسه و هو يبرق و يرعد و يتوعد، و ماذا يملك الطاغية غير الغضب و الوعيد و سفك الدماء؟ و ماذا يملك سوي أن يشهر حقده و سيفه و عصاه؟

توعد ابن زياد و هدد، و ما كان بالذي يستطيع كظم غضبه و التغلب علي هواه، و كان يجد في قتل الناس و تعذيبهم اللذة التي يجدها الطغاة عادة عندما يسومون الناس قتلا و تعذيبا و عسفا، و كأنهم بذلك يلهون و يلعبون و كأنهم لم يفعلوا شيئا - علي حد تعبير مسلم - و قد جبه ابن زياد قبل قليل بذلك.

(قتلني الله ان لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الاسلام). [6] .

(الابداع) في الجرمية لا يقدر علي الا المتمرسون بها، الموغلون بسفك الدماء، أجاب مسلم: (أما أنك أحق من أحدث في الاسلام ما لم يكن فيه.

أما أنك لا تدع سوء القتلة، و قبح المثلة، و خبث السيرة، و لؤم الغلبة، و لا أحد من الناس أحق بها منك). [7] .

و ما عسي مسلم أن يجيب بغير ما أجاب به و صفع خصمه؟


و بأي شي ء يمكن أن يكون ابن زياد أحق الناس ان لم يكن بالتفنن بالجريمة و الانتفاخ أمام أعدائه العزل و التظاهر بما يتظاهر به الطغاة عادة و قد حسبوا أن الغلبة لهم و الناس الي جانبهم.

كانت صفعة قوية لابن زياد، صفعة بصفاته القبيحة هذه المعروفة عنه من قبل جميع أفراد الأمة سواء في الحجاز أو الشام أو العراق، و في غيرها من البلدان الاسلامية، الذين عرفوا و سمعوا الكثير عن أباه الذي اشتهر بقسوته المتناهية في قمع المعارضين و من حسب أنهم سيكونون من المعارضين و كل الأبرياء الذين وقعوا بين يديه.

لم يستطع أن يقابل القول بالقول و الحجة بالحجة. (و أقبل ابن سمية يشتمه و يشتم حسينا و عليا و عقيلا، و أخذ مسلم لا يكلمه). [8] .

و الشتيمة سلاح العاجز الذي لا يجد الكلمات التي يستطيع أن يحاور بها خصمه و يرد بها حجته و يدفع بها التهم عن نفسه.

كشف مسلم ابن زياد، و أظهره أمام جلسائه كما هو، و ابن زياد أعرف بنفسه من جلسائه.

و مع أن مسلم عرف جرأة ابن زياد علي القتل و سفك الدماء و التنكيل بأعدائه، و انه لن يدع سوء القتلة و قبح المثلة و خبث السريرة و لؤم الغلبة علي حد تعبيره و أنه سيكون معه أشد مما كان مع سواه، فانه وجد أن عليه أن لا يتنازل أمامه و أن يواجهه بقوة، لتظل كلماته و موقفه ماثلة أمام الأمة فيما بعد، عسي أن تحركها و تهز وجدانها يوما ما، و عسي أن تثير فيها نوازع الكرامة و الحرص علي حريتها و انسانيتها و عقيدتها قبل كل شي ء.

فهو لم يقبل الي الكوفة بمهمة شخصية أو هدف خاص به أو بعائلته، و لم يأت لطلب أمرة أو مال أو جاه، و انما جاء استجابة لأمر امام الأمة و تنفيذا لأوامره، مع أن معرفته بأهل الكوفة و رأيه الخاص بهم قد يمنعه من المجي ء اليهم لو كان الأمر يعود اليه خاصة أنه لم يتردد رغم توقعه خذلانهم و تراجعهم لأنه كان علي يقين من


صواب قائده و امامه، كما ذكرنا ذلك في بداية هذا البحث، فمضي الي الكوفة، و قام بعمله من أول ساعة وصل بها اليها، و جمع حوله عددا كبيرا من أهلها، بايعوه علي نصرة الحسين عليه السلام كما رأينا، و لم يتردد، و قد وجد نفسه وحيدا بمواجهة ابن زياد الدموي العنيف في أن يبدي رأيه فيه و في سيده يزيد و حال الأمة المزري الذي أوصلها اليها معاوية و أزلامه و في مقدمتهم زياد، والد هذا الطاغية الذي يمثل امامه و يتطاول عليه و يسبه و يهدد بقتله و تعذيبه و التمثيل بجثته بعد ذلك.

و قبل أن يأمر بقتله واجهه مسلم بعقدة النقص فيه، عقدة الأصل الدنس و عقدة الوضاعة و السفاح التي تحدر منها أبوه، و جعله فيها معاوية علي أساس قانون جاهلي و بشهادة خمار و صنيع أخا له، و كأن مما يشرف المرء أن يكون أخا لمعاوية، الا أن مصلحة معاوية و زياد التقت علي طريق الشر و لم تعد بنظرهما أية قيمة للاسلام و مبادئه و قوانينه.


پاورقي

[1] نفس المصدر السابق.

[2] المصادر السابقة، و النص للطبري 291 / 3.

[3] نفس المصدر السابق.

[4] نفس المصدر السابق.

[5] نفس المصدر السابق.

[6] المصادر السابقة و النص عن الطبري 291 / 3 و قد روي النويري في نهاية الارب 403 / 20 قل: (ثم کانت بينهما مقاولة، قال له ابن‏زياد آخرتها: قتلني الله ان لم أقتلک قتلة لم يقتلها أحد في الاسلام فقال: أما أنک أحق من أحدث في الاسلام ما ليس فيه. أما أنک لا تدع سوء القتلة و قبح المثلة و خبث السريرة و لؤم الغلبة لأحد من الناس أحق بها منک)، و جاء في الفتوح 152 / 5 ان مسلم قال ابن زياد: (أنت و أبوک أحق بالشتم منهم، فاقض ما أنت قاض، فنحن أهل بيت موکل بنا البلاء).

[7] نفس المصدر السابق.

[8] نفس المصدر السابق.