بازگشت

بين (المغلوب) القوي و (المنتصر) الضعيف


و كشف الحوار الذي دار بين مسلم و ابن زياد، عن طبيعة الرجلين و طبيعة توجهاتهما و سلوكهما، و لنا أن نتصور الجو الذي جري فيه هذا الحوار.

ابن زياد في قمة (انتصاره و نجاحه) بعد قمع المعارضة الشعبية و القبض علي رؤوسها وقادتها، و هو يتطلع الي يزيد مثلا أعلي، يزيد أن يرضيه بكافة الطرق و الأساليب، و مسلم (المغلوب) المقيد الجريح العطشان و قد تخلي عنه ثمانية عشر الف مقاتل أو ثلاثون الفا من الرجال، أبدوا استعدادهم منذ البداية للوقوف معه و مع الامام عليه السلام حتي الموت.

الجلاد يقف بمواجهة أسيره يرعد و يبرق و يتوعد و يشتم، و هو أمر لم يكن يفعله لو لم يكن في ذلك الموقف الذي كان يري فيه نفسه منتصرا، و لم يكن يتوقع منه الا في موقفه هذا الذي اختال فيه زهوا و كبرياء.

فقد كان يتوقع من أسيره خنوعا و استسلاما و ذلة، أما و قد رأي أن هذا الأسير المرتهن بكلمة واحدة تخرج من فمه حتي يموت أشنع ميتة، يواجهه هذه المواجهة الصلبة الشامخة، و يواجه كذبه و تلفيقاته و عجرفته بمنطق الانسان الرسالي الذي لا


يري أمامه الا قيم الاسلام و مبادءه، و منطق كتاب الله و رسوله صلي الله عليه و آله و سلم و آله و أوصياءه عليهم السلام.

فان غضب الجلاد يتحول الي جنون مطبق و هياج مسعور، و حقده يطفو ليعلن حقيقته كما هي مكشوفة أمام الناس بعد أن لم يستطع اخفاءها بما اعتاده من نفاق و كذب و جدل.

التفت الجلاد الي أسيره قائلا: (ايه يابن عقيل! أتيت الناس و أمرهم جميع، و كلمتهم واحدة، لتشتتهم، و تفرق كلمتهم، و تحمل بعضهم علي بعض!). [1] .

و هذه هي الحجة الأموية الدائمية التي طالما رفعوها في وجه خصومهم، و هي التي طالما استعملها معاوية و أعوانه كزياد و ابن النابغة وابن شعبة و غيرهم، و استعملها الطغاة من بعدهم علي مر التاريخ مبررين بها كل جرائمهم و كل أعمال القمع التي قاموا ضد أولئك الخصوم.

و كأنما الله سبحانه و تعالي، أرسل رسوله صلي الله عليه و آله و سلم بالهدي و دين الحق، و قد كلفه أن يدعو الأمة لكي تجتمع فحسب، أما علي أي شي ء، فهذا لا يهم مادام أمرها جميع و لمتها واحدة، و كأنه - و حاشاه - لم يأمر أن تجتمع علي الاسلام و الاسلام وحده، لتكون بهذا الشرط الأساسي قد حققت رضاه و أعلنت استجابتها التامة لرسالته و ما أراده منها.

لقد كانت الحجة (ناجحة) أحيانا في خضم الفتن التي شهدها المسلمون و التي كان معاوية الطرف الرئيسي و السبب المباشر لها، و طموحهم أن يروا أنفسهم و قد اجتمعوا و نبذوا الفرقة و التفتوا الي هذه الرسالة التي كان لهم شرف حملها و نقلها الي العالم.

أما وقد انفرد الأمويون بالحكم و السلطان المطلق، و باسم الاسلام، فعلي أي شي ء يمكن أن يجمعوا الأمة، ان لم يكن بالاسلام نفسه؟ و كيف يبررون خروجهم المعلن عنه الا في بعض الأمور الطقوسية و المظهرية؟

ان حجتهم في هذه الحالة باطلة و مزيفة، و ما دفعوها الا لتبرير انصرافهم عن الاسلام، و العمل لتأسيس دولة بعيدة عنه، دولة كسروية أو قيصرية، جاهلية ظالمة.


و كان الأمة بحاجة الي أن تواجههم بفساد هذه الحجة، و بحجة غالبة قوية تدحضها و تفندها.

و هكذا أجاب مسلم ابن زياد: (كلا، لست أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم، و سفك دماءهم، و عمل فيهم أعمال كسري و قيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل و ندعو الي حكم الكتاب). [2] .

لم يتنصل من مهمته، و لم يقل انه ليس ضد دولة الظلم، و انما أعلن عنها و عن طبيعتها بكل وضوح، و أعلن أنه لم يكن وحده الذي تصدي لمقاومة الانحراف الأموي، و ان المتصدي الأول لانحرافهم المتعمد و الذي يراد جر الأمة كلها لهذا الانحراف، انما هو امام الأمة نفسه عليه السلام، و أنه انما هو طليعة له.

و قد واجه ابن زياد باعتباره أحد رموز النظام بما قام به أبوه هو بالذات (زياد ابن أبيه) التي الحق معاوية نسبه بأبي سفيان. كما مر بنا في هذا الكتاب - و قد واجهه بانحراف الدولة (الاسلامية) التي كان من المفترض أن تسير علي خط الاسلام الصحيح و لا تنحرف و تجور و تحكم بما لم ينزل به الله تعالي.

و بماذا يمكن أن يجيب ابن زياد، و الأمر كما قال مسلم حقا، هل يمكن أن يقول ان دولته تعمل بالعدل و بما جاء في كتاب الله، و هل يستطيع أن يؤكده و يثبته، أم يدعيه ادعاء، ثم يعمد بعد ذلك الي الكذب و التجريح و تشويه شخصية محدثه أمام الحاضرين، مع أنه معروف بالفضل، بل انه رمز من رموز الصلاح و المعروف،


و يكفي موقفه الأخير لمواجهة هذه الدولة المتسلطة دليلا علي صدق المبادي ء التي حملها و آمن بها و جاء ليموت من أجلها، و من أجل أن يساهم في ابعاد الأمة عن الانحراف الذي تجر اليه جرا و تساق اليه بشتي الأساليب و الطرق.


پاورقي

[1] المصادر السابقة، و النص منقول عن الطبري 291 / 3.

[2] المصادر السابقة باختلاف بسيط في النصوص، و النص أعلاه منقول عن الطبري 291 / 3 و أضاف مسلم، کما روي الخوارزمي (... اذ کنا أهله، و لم تزل الخلافة لنا، و ان قهرنا عليها - رضيتم بذلک أم کرهتم - لأنکم أول من خرج علي امام هدي، و شق عصا المسلمين - و لا نعلم لنا و لا لکم الا قول الله تعالي (و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)، و روي أنه قال له: (لست لذلک أتيت هذا البلد، ولکنکم أظهرتم المنکر، و دفنتم المعروف، و تأمرتم علي الناس من غير رضي، و حملتموهم علي غير ما أمرکم الله به، و عملتم فيهم بأعمال کسري و قيصر، فأتيناهم لنأمر بالمعروف و ننهي عن المنکر، و ندعوکم الي حکم الکتاب و السنة، و کنا أهلا لذلک، فانه لم تزل الخلافة لنا منذ قتل اميرالمؤمنين علي بن ابي‏طالب، و لا تزال الخلافة لنا، فانا قهرنا عليها. انکم أول من خرج علي امام هدي و شق عصا المسلمين، و أخذ هذا الأمر غصبا، و نازع أهله بالظلم و العدوان) حياة الامام الحسين / القرشي 406 - 2 نقلا عن الفتوح 101 / 5.