بازگشت

امانة عمر بن سعد


و لم يكن ابن سعد بمستوي الأمانة التي أودعه اياها مسلم، و كان مثال احتقار الجميع بعد ذلك، حتي ابن زياد نفسه.

لم يشأ مسلم، و هو في اللحظات الأخيرة من حياته، أن يفد الي ربه، الا بعد أن يبري ء ذمته من الدين الذي كان عليه، و لم يفكر في تلك اللحظات الا بالحسين عليه السلام، و مع أنه كلف ابن الأشعث بارسال من يوصيه بالبقاء و التريث، و عدم القدوم الي الكوفة، الا أنه لم يطمئن لوعود ابن الأشعث، و كان كل شي ء يدعوه - عند ذاك - لعدم الاطمئنان و لعل أمله بابن سعد كان ضعيفا الا أنه لم يشأ أن يترك الدنيا دون وصيته، فقال له:

(ان علي بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الكوفة، سبعمائة درهم، فاقضها عني، و انظر جثتي فاستوهبها من ابن زياد، فوارها، و ابعث الي الحسين من يرده، فاني قد كتبت اليه أعلمه أن الناس معه، و لا أراه الا مقبلا). [1] .


و لم يكن بوسع مسلم أن يفعل الا ما فعل، الا أنه كان قد ائتمن خائنا اذ لم يجد غيره و لعله احتمل أن يكون أمينا علي وصيته، غير أن الأمين لا يخون، و ابن سعد قد خان، و قد بادر باعلام سيده ما أخبره به مسلم قائلا: (أتدري ما قال لي؟ انه ذكر لي كذا و كذا) [2] ، و ذكر وصية مسلم له.

و كان رد ابن زياد صفعة لابن سعد، لعل الذليل تلقاها مبتسما، دون أن تتأذي نفسه، و لعل ابن زياد كشف بالموقف الخياني من ابن سعد و تقبل الرد العنيف منه نفسا ضعيفة جبانة لا تري في الاستسلام أو الغدر ضيرا، و قد يكون ذلك هو الذي شجعه في نهاية المطاف لكي يسند اليه مهمة قتل الامام عليه السلام و أصحابه فيما بعد، عالما أنه لا يملك ارادة الرفض... ألم يستمر بخدمة الدولة تابعا ذليلا رغم مركز أبيه الذي جعل معاوية يخاف منه فيقدم علي اغتياله بالسم؟

ان من سكت عن هدر دم ابيه و انحني لقاتله، جدير بأن يمضي في شوط الذل و الخيانة الي النهاية.

قال ابن زياد لابن سعد: (انه لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن.

أما مالك فهو لك، ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت؛

و أما الحسين فانه ان لم يردنا لم نرده، و ان أرادنا لم نكف عنه.

و أما جثته فانا لن نشفعك فيها، انه ليس بأهل منا لذلك. قد جاهدنا و خالفنا، و جهد علي هلاكنا). [3] .

و يبدو من الطبيعي أن ابن زياد الذي خلص من مآزق عديدة، خلال فترة قصيرة، تعرض في بعضها لخطر الموت المحقق، لولا تراجع أهل الكوفة و استسلامهم بفعل اغراءات الحاشية من أشراف الكوفة و بعض رؤساء القبائل المتنفذين، و قد رأي أن ذلك المد الشعبي الذي طغي و كاد أن يودي به قد انحسر و تراجع، و لابد أنه رأي أن ذلك قد حصل بفعل مهارته و دهائه و حسن تصرفه، و انه قد نجح في المهمة التي أرسله بها يزيد الي أبعد حد مما كان سيرضيه في النهاية بعد أن كان غاضبا منه قبل ارساله الي الكوفة.


كانت النتيجة المتوقعة من كل ذلك أن يعمد الي المزيد من الأساليب التي عمد اليها في هذه المهمة، و لا يكتفي بعدم السماح للامام الحسين عليه السلام بعدم القدوم أو يفرح اذا ما أرسل اليه احد يمنعه او يحذره من ذلك، و انما يطمع بقدوم الامام عليه السلام الي الكوفة و قد تخلت عنه القاعدة الشعبية التي كان يأمل أن تسانده في ثورته علي النظام الأموي الفاسد، و المضي بعد ذلك الي ابعد غاية لارضاء يزيد و القيام بقتل الحسين عليه السلام و استئصال الذكور من أولاده و آله و أقربائه.

و هكذا فانه وجد أن الفرصة أمامه كانت سانحة لتنفيذ مهمته الي النهاية. و بجوابه أعرب عن حقده علي الحسين و مسلم كليهما، و أعلن عن عزمه علي الحاق العقوبة حتي بالجثث التي لن يضيرها ما يفعل بها، مادامت قد أصبحت جثثنا، ولكنه يريد أن يرهب بذلك من يحاول أن يتحدي الدولة الأموية الغاشمة مهما كان مركزه و مكانته من الأمة، و هو أمر تلجأ اليه الدول الطاغوتية عادة في غمرة عملها الدؤوب لتعزيز سلطانها و بسط نفوذها.


پاورقي

[1] الطبري 291 / 3 و راجع المصادر السابقة، مع اختلافات طفيف في النصوص.

[2] نفس المصدر السابق.

[3] المصادر السابقة مع اختلاف يسير في النص.