بازگشت

اشراف أم شرطة.. مذلون مهانون


و لعل ابن زياد أراد أن يتخذ القبض علي مسلم و تسليمه اليه مظهرا احتفاليا قد يتاح له في اذلاله و استخراج كلمات الاعتذار و المديح منه بعد أن وقع في الأسر و أصبح وحيدا في مواجهة أعدائه الذين أسرعوا للمساهمة بجني ثمار سعيهم و نصرهم، و لعله كان طامعا أن يتراجع مسلم و أن يتبرأ من امامه عليه السلام و يعلن عدم عدالة قضيته.

كان الأشراف في مقدمة من أسرعوا لحضور هذه الاحتفالية، فعندما أقبل ابن الأشعث بمسلم وجد علي باب القصر بعض المنتظرين (منهم عمارة بن عقبة بن ابي معيط، و عمرو بن حريث، و مسلم بن عمرو الباهلي، و كثير بن شهاب). [1] .

و لعل بعضهم أراد جني ثمار نصره قبل ابن زياد، و لعلها فرصة قد تتاح له أن يذل مسلم قبل أن يذله سيده، و قد يتاح له أن يضحك من الأسير المغلوب، أو يرد


عليه كلمات الاعتذار التي قد يسمعها منه، و حنيذاك يتقدم هو بموعظة ينفع فيها أسيره، و كل خارج عن ارادة الدولة أن لا يفعل ذلك و يطيع سلطانه، ففي ذلك وحده الأمان من الأخطار و المتاعب.

و قد تطوع مسلم بن عمرو الباهلي، مبعوث يزيد الي ابن زياد و مرافقه بعد ذلك من البصرة الي الكوفة لهذه المهمة النذلة، عندما انتهي مسلم اليهم و هو عطشان و أمامه قلة ماء باردة موضوعة علي الباب فطلب أن يسقي.

(فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ما أبردها! لا والله لا تذوق منها قطرة أبدا حتي تذوق الحميم في نار جهنم!

قال له ابن عقيل: ويحك، من أنت؟

قال: أنا ابن من عرف الحق اذا نكرته، و نصح لامامه اذ غششته، و سمع و أطاع اذ عصيته و خالفت، أنا مسلم بن عمرو الباهلي.

فقال ابن عقيل: لأمك الثكل! ما أجفاك، و ما أفظك، و أقسي قلبك و أغلظك. أنت يا ابن باهلة أولي بالحميم و الخلود في نار جهنم مني.

ثم جلس متساندا الي حائط). [2] .

و يكشف (حوار) الباهلي و مسلم عن ذوبان شخصية الأول في قائده المنحرف، و عن عدم رؤية سواه، فهو مثله الأعلي الذي يمثل له القوة الوحيدة القادرة علي دفعه و ابقائه علي قيد الحياة منعما، انه ينساق وراءها دون وعي أو ارادة بعد أن فقد امكانية النقد و التقويم و قدرة التمييز بين الحق و الباطل و المعروف و المنكر، بين ما يريده الاسلام و ما يرفضه، و هو ان تبجح بموقفه هذا، فلأنه يري أنه الموقف الوحيد الصحيح الذي ينبغي عليه أن يقفه، و لعله يغبط نفس علي أنه كان يتمتع بعقلانية أتاحت له الحفاظ علي مركزه و مصلحته في جو اختلطت فيه القيم و تضاربت، و عاد الاسلام يعيش غربة حقيقية بعد أن كان هو سيد الموقف.

ان نماذج مسلم بن عمرو الباهلي تلوح لنا دائما و في كل وقت، تقيس الأمور بعين المصلحة و المنافع و تنساق وراء من بيده الصولجان و فوق رأسه التاج فتتخذه اماما و قائدا مادامت هي تمسك عصا صغيرة تسيطر بها علي مجموعة من الناس.


انها - بقدر ما تتجبر و تتكبر علي من تحسبه ضعيفا مخذولا - بقدر ما تستكين و تنحني أمام من يشبعها ذلا و اهانات، مادام يتيح لها في النهاية أن تبدو بدور العزيز القوي.

و ربما كان موقف الباهلي مدعاة لخجل عمرو بن حريث أو عمارة بن عقبة، فقد ذكر أن أحدهما بعث غلامه فجاءه بماء في قلة ليسقي مسلم (فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دما، فلما ملأ القدح المرة الثالثة ذهب ليشرب فسقطت ثنيتاه فيه، فقال: الحمدالله! لو كان لي من الرزق المقسوم شربته). [3] .

و لعلها حكمة الهية، أن يموت أصحاب الحسين عليه السلام كلهم عطاشي بما فيهم رائدهم الي الكوفة و مبعوث امامهم اليها، و يحرموا مما أباحه الله لكل مخلوقاته، و أن تتكرر مواقف المتطوعين المتزلفين في كل مرة ليرددوا علي أسماع مسلم، هذا الماء مباح لكل مخلوقات الله الا أنت - كما فعل الباهلي - و علي أسماع الحسين عليه السلام و أصحابه كما فعل بعض جنود ابن زياد، في الطف، فيما بعد.


پاورقي

[1] تراجع المصادر السابقة و النص عن الطبري 290 / 3.

[2] نفس المصدر السابق.

[3] الطبري 291 / 3 و تراجع المصادر السابقة.