بازگشت

الغدر، ثم الغدر


و يبدو من موقف مسلم، عند منازلته لأصحاب ابن الأشعث، و عند تمثله بالرجز الذي تمثل به، أنه كان مصمما علي القتال الي النهاية، و مع أنه كان يتمتع بقوة بدنية فائقة الا أنه لم يكن بوسعه التغلب علي كل جنود الكوفة الذين أرسلوا اليه، و لعله أعطي الأمان و لم يطلبه.

لم يبد بموقف الضعيف أو الذليل أبدا، و قد نازلهم و قاتلهم و قتل منهم مقتلة عظيمة حتي أنهم أرسلوا امدادا لمقاتليهم الأوائل،

و لعل الكثرة قد تغلبت، و استنفذت قوة مسلم و أثخنت الجراحات و أعياه نزف الدم، كما ورد في بعض الروايات، و حتي و هو في تلك الحال لم يستسلم، و ربما طعن و سقط حتي أخذ أسيرا.

فعندما دنا منه ابن الأشعث و قال له: (لك الأمان لا تقتل نفسك و أنت في ذمتي. فقال مسلم: أوسر و بي طاقة؟ لا و الله لا يكون ذلك أبدا، و أي أمان للغدرة الفجرة، ثم حمل علي ابن الأشعث، فهرب منه، ثم رجع الي موضعه و هو يقول: «اللهم ان العطش قد بلغ مني» فلم يجتري ء أحد أن يسقيه الماء و يدنو منه.

فصاح ابن الأشعث بأصحابه: ان هذا لهو العار و الشنار أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع؟ احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة.

فحملوا عليه من كل جانب - و قد أثخنت الجراحات و أعياه نزف الدم - و اشتد


به العطش، و ضعف عن القتال، فتساند الي جنب دار من تلك الدور، فطعنه لعين من القوم خلفه، فسقط الي الأرض صريعا، فأسره القوم). [1] .

و تبدو هذه الرواية أدق من سابقتها، و يبدو أن هذا هو التفسير المعقول لوقوع مسلم في الأسر، فلو كانت به طاقة اضافية علي مواجهتهم لما ادخرها و قاومهم الي آخر نفس، علي أن كل المؤرخين أجمعوا أنه عجز عن القتال.

و لعل ابن الأشعث خجل من موقفه و غدر أصحابه بمسلم، فأراد طمأنته الي أنه آمن الجانب اذا ما سار معهم الي ابن زياد، و لعله أراد منه وضع يده في يده. و هذا ما لن يطمع فيه أحد من مسلم.

تكررت محاولات محمد بن الأشعث عدة مرات لثني مسلم عن القتال واعدا اياه بالأمان، و لعل ذلك كان مكرا منه، و لعله حسب أنه له دالة علي ابن زياد فحسب انه يستطيع بما قدمه له أن يمنعه من قتل مسلم، و قد روي أنه طلب ذلك منه، الا أن ابن زياد زجره و رفض طلبه.

و قد حمل مسلم الي القصر، و اجتمعوا حوله، و انتزعوا سيفه من عنقه، فكأنه عند ذلك آيس من نفسه، فدمعت عيناه، ثم قال: هذا أول الغدر، قال محمد بن الأشعث: أرجو ألا يكون عليك بأس.

قال: ما هو الا الرجاء، أين أمانكم! انا لله و انا اليه راجعون، و بكي، فقال له عمرو السلمي: ان من يطلب مثل الذي تطلب، اذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك، قال: اني و الله ما لنفسي أبكي، و لا لها من القتل أرثي، و ان كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا، ولكن ابكي لأهلي المقبلين الي، ابكي لحسين و آل حسين.

ثم أقبل علي محمد بن الأشعث فقال: اني أراك و الله ستعجز عن أماني، فهل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلا علي لساني، يبلغ حسينا، فاني لا أراه الا قد خرج اليكم اليوم مقبلا، أو هو خرج غدا هو و أهل بيته، و ان ما تري من جزعي لذلك. فيقول: ان ابن عقيل بعثني اليك، و هو في ايدي القوم أسير لا يري أن تمشي


حتي تقتل، و هو يقول ارجع بأهل بيتك، و لا يغرك أهل الكوفة فانهم أصحاب أبيك الذي كان يتمني فراقهم بالموت أو القتل؛ ان أهل الكوفة قد كذبوك و كذبوني، و ليس لمكذب رأي). [2] .

و قد وعده ابن الأشعث أن يفعل ذلك، و يقال أنه أرسل رسولا للامام عليه السلام مع أننا نستبعد ذلك لقيه في (زبالة) و أبلغه رسالة مسلم، و قد قال له الامام عليه السلام: (كل ما حم نازل، و عندالله نحتسب أنفسنا و فساد أمتنا). [3] .


پاورقي

[1] مقتل الحسين، للسيد محمد تقي آل بحر العلوم عن اللهوف لابن‏طاووس ص 22 و مناقب ابن شهر اشوب 94 - 93 - 4، و مقتل الخوارزمي ج 1 ف 210 - 10، و الفتوح 94 - 5، و الارشاد للمفيد 196، و راجع المصادر الأخري التي ذکرناها...

[2] تراجع المصادر السابقة و النص المنقول عن الطبري 290 - 289 / 3 و کان مسلم قد بعث برسالة الي الامام (ع) حين تحول من دار المختار الي دار هاني‏ء و بايعه ثمانية عشر الف، و قيل ثلاثون الفا، مع عابس بن ابي‏شبيب الشاکري الذي قدم معه و استشهد في کربلاء... (اما بعد فان الرائد لا يکذب أهله، و قد بايعني من أهل الکوفة ثمانية عشر الفا، فعجل الاقبال حين يأتيک کتابي، فان الناس کلهم، ليس لهم في آل معاوية رأي و لا هوي)، الطبري 290 / 3، و راجع ابن‏کثير 158 / 8، و ابن‏الاثير 396 / 3.

[3] نفس المصدر السابق.