بازگشت

بين الأم الرسالية و الابن السكير


و تتجلي لنا هنا مواقف و مشاعر متضاربة، موقف مسلم المخذول الجريح الغريب الذي تجيش عواطف الأسي في نفسه علي ابن عمه و أهله و هم يوشكون علي الوقوع بين أيدي أعدائهم، و من كانوا أعوانهم حتي مساء ذلك اليوم الذي وقعوا فيه ضحية رؤسائهم و وجوه قومهم، الذين جعلوهم يتقلبون عليهم ذلك الانقلاب السريع رغم قوتهم و كثرة عدوهم، و موقف طوعة المرأة الشجاعة التي آوت مسلما رغم علمها بقسوة الجلاد، و قد اهتمت به و أفردت له غرفة في منزلها و حاولت أن تكتم علي وجوده لديها، و لعل عواطف الرحمة و الحب لآل الرسول صلي الله عليه و آله و سلم قد أظهر تلك المرأة بذلك المظهر الفريد لتتميز علما بين قريناتها عندما سجلت ذلك الموقف الشجاع باستضافة مسلم رغم كل الأخطار المحتملة.

و موقف ابنها بلال الشريد السكير الذي تنازعته مشاعر الفضول و الطمع و الغدر و العقوق و التنكر لوالدته المحبة التي كانت تنتظر رجوعه بفارغ الصبر عند قدوم مسلم.

و لنتصور موقف الكوفة و ما مر بها من أحداث هائلة ذلك اليوم و الانقلاب الذي رجح كفة ابن زياد بعدما كاد أن يطيح به مسلم.

موقف الفرحين المستبشرين من أعوان ابن زياد و قد تكللت مساعيهم بالنجاح و موقف المحزونين المكروبين من أعوان مسلم الذين تراجعوا بفعل القوة الغاشمة و الرؤساء المهزومين.

كانت عوامل الخوف و القلق و الحزن و الرجاء تجيش في نفوس هؤلاء مقابل عوامل الفرح و السعادة و الشماتة التي تجيش في نفوس أعدائهم، من اخوانهم و أقربائهم و عشيرتهم، كان يوم مسلم يوما حالفا، انقلبت فيه مقاييس القوي كلية لصالح ابن زياد، و عاد الناس ينتظرون اللحظات التي ينبئهم فيها أعوان السلطة بالقبض عليه، فابن زياد قد أعد حملة كبيرة لذلك، استنفر فيها أعوان الدولة من الشرطة و العرفاء و المقاتلة و الأشراف و غيرهم، و لعل حملته تلك كانت أكبر حملة من نوعها تستنفر فيها طاقات الدولة للقبض علي شخص واحد.

كان سعي ابن زياد محموما، و لعله لم ينم ليلته تلك و هو يضع الخطط و يدبرها للقبض علي مسلم أو القضاء عليه و قتله، و الذي لم ينم هو الآخر كما ذكر


المؤرخون، و كان يتوجه الي ربه بالصلاة و الدعاء و العبادة بعد أن أدي مهمته و واجه خصومه، و كان يعرف شراستهم و حرصهم علي الملك و التسلط، و كان يتوقع أن يقوموا بالتصدي له و منعه من انجاز مهمته، و لعلهم امتلكوا من عوامل القوة و السيطرة أكثر مما امتلك هو، و مع ذلك فانه لم يحجم عن المهمة التي كلفه بها ابن عمه الحسين عليه السلام رغم معرفته بالمخاطر الحقيقية التي كان يمكن أن يستهدف لها، و قد استهدف لها فعلا،

و بالتأكيد فان طرفا مما ورد عن الرسول صلي الله عليه و آله و سلم بشأن مقتل الحسين عليه السلام هنا، و ربما مقتله هو قد وصل اليه، فهو يعيش في كنف عمه أميرالمؤمنين عليه السلام و مع ابناءه حيث علوم آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم و أخبارهم و رواياتهم تنتقل من جيل الي جيل من أئمتهم الأطهار.

و لعل نفس الدوافع التي جعلت الامام الحسين عليه السلام لا يتراجع و هو يواجه مهمته الصعبة جعلت مسلم لا يتراجع كذلك و هو يواجه مجتمع الكوفة وحيدا بعيدا عن ابن عمه الذي أرسل اليه يدعوه للقدوم بعد أن حسب أن الكوفة قد أصبحت بيده، و تبين له بعد ذلك أنها قد أصبحت بيد عدوه.

لعل الحسين عليه السلام سيدرك الأسباب التي جعلت مسلم يكتب اليه و يستدعيه، و سيقدر الموقف و يفهمه، الا أن مسلم لن يعذر نفسه و هو يري أنه كان السبب لقدومهم علي أناس أصبحوا أعداء بعد أن كانوا موالين.

كان الأمر محزنا حقا و مقلقا و الكوفة قد انقلبت علي مسلم الذي أصبح وحيدا مطاردا بعد أن كان عزيز الجانب كثير الأعوان، و لعل وحدته و حزنه لم يبددها الا صوته و همسه و هو يردد كلمات الصلاة و الدعاء و العبادة في تلك الليلة التي كان يري انها ليلته الأخيرة، و لعل تلك الكلمات كانت هي وحدها الكفيلة بتخفيف حزنه و آلام جراحاته و مخاوفه.