بازگشت

حملة (أشراف الكوفة) لتخذيل الناس و تخويفهم...


و هنا شنت أكبر حملة نفسية مضادة من قبل أعوان ابن زياد من أشراف الكوفة، سبب نجاحها معرفتهم بواقع أهل الكوفة المستهدفين لظلم الدولة الأموية و ارهابها، و الذين كانوا مشتتين موزعين طوائف وشيع وراء زعمائهم المنقادين لأوامر الدولة و رغباتها، و استهدفت تلك الحملة المحمومة تخذيل أعوان مسلم و اخافتهم و بث الاشاعات بينهم حول قدوم جيش الشام و تحذيرهم من قطع أعطياتهم و ارسالهم الي محاربة أعداء الدولة دون مقابل، و قد زج الأشراف بكل ثقلهم في معركة الاشاعات و التخذيل، معتقدين أنها معركة بقاء و حياة حاسمة بالنسبة لهم.

و روي أحد أتباع مسلم، قال: (. خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر الا و نحن ثلثمائة، ثم ان الناس تداعوا الينا و اجتمعوا، فوالله ما لبثنا الا قليلا حتي امتلأ المسجد من الناس و السوق، و ما زالوا يثوبون حتي المساء. فضاق بعبيدالله ذرعه، و كان كبر أمره أن يتمسك بباب القصر [1] ، و ليس معه الا ثلاثون رجلا من الشرط و عشرون رجلا من أشراف الناس و أهل بيته و مواليه، و أقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار الروميين، و جعل من بالقصر مع ابن زياد يشرفون عليهم، فينظرون اليهم، فيتقون أن يرموهم بالحجارة، و أن يشتموهم، و هم لا يفترون علي عبيدالله و علي أبيه.

و دعا عبيدالله كثير بن شهاب بن الحصين الحارثي، فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير بالكوفة، و يخذل الناس عن ابن عقيل و يخوفهم الحرب، و يحذرهم عقوبة السلطان، و أمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كنده و حضر موت، فيرفع راية الأمان لمن جاءه من الناس، و قال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، و شبث بن ربعي التميمي، و حجار بن أبجر العجلي، و شمر بن ذي الجوشن العامري، و حبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشا اليهم لقلة عدد من معه من الناس، و خرج كثير بن شهاب يخذل الناس عن ابن عقيل). [2] .


و قد لعب كثير دور الشرطي لابن زياد، فقد ألقي القبض علي رجل كان يريد نصرة مسلم و سلمه لابن زياد، و فعل محمد بن الأشعث مثل فعله.

و يبدو أن محمد بن الأشعث الذي كان يدافع عن القصر قد تراجع أمام أحد قواد مسلم الا أن القعقاع الذهلي سانده، و قد طلبوا من ابن زياد الخروج لمناجزة مسلم، الا أنه رفض، و عقد لشبث بن ربعي لواء، فأخرجه. [3] .

(و أقام الناس مع ابن عقيل يكبرون و يثوبون حتي المساء، و أمرهم شديد، فبعث عبيدالله الي الأشراف فجمعهم اليه، ثم قال: اشرفوا علي الناس، فمنوا أهل الطاعة الزيادة و الكرامة و خوفوا أهل المعصية الحرمان و العقوبة، و أعلموهم وصول الجنود من الشام اليهم، فتكلم كثير بن شهاب أول الناس حتي كادت الشمس أن تحجب، فقال: أيها الناس، الحقوا بأهاليكم، و لا تعجلوا بالشر، و لا تعرضوا أنفسكم للقتل، فان هذه جنود أميرالمؤمنين يزيد قد أقبلت، و قد أعطي الله الأمير عهدا: لئن أتممتم علي حربه و لم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء، و يفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام علي غير طمع، و أن يأخذ البري ء بالسقيم، و الشاهد بالغائب، حتي لا يبقي له فيكم بقية من أهل المعصية الا أذاقها و بال ما جرت أيديها، و تكلم الأشراف بنحو من كلام هذا، فلما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرقون). [4] .

كان الوالي الأموي مطمئنا الي أن وراءه دولة غاشمة تحميه و تمده بالرجال و السلاح، و كان واثقا أنه بمجرد التلويح بجيش الشام و قوة الشام، يستطيع امتصاص فورة الغضب التي ظهرت من أهالي الكوفة، و اذا ما لوح للمستجيبين المتخاذلين بالمال و الثروة و لأعدائه الثائرين بالحرمان و العقوبة و القتل و حرمان ذريتهم العطاء و ارسالهم للحرب دون مقابل، و اذا ما لوح بسل سيف التهمة و الظن و قتل البري ء بالسقيم و الشاهد بالغائب، حتي يقضي علي كل من يشم عنده نفس معارضة أو تمرد، فان هذه الأمور التي لوح بها تبدو أمورا جديرة بالخوف من جانب أهل الكوفة، فهم


قد خبروا بطش الدولة و سطوتها و غشمها، و كان قائدها الأول معاوية و أعوانه كزياد جديرين بكل ذلك في غياب قانون الاسلام و تحكيم قانون معاوية وحده كما أن قادتها الجدد كيزيد و ابن زياد جديرين باللجوء الي سياسة الغشم بشكل أكثر وضوحا مما كان في السابق لأنهم ليسوا بمستوي الكفاءة التي أبداها معاوية و رهطه و التي أظهرته بدور الحليم المتسامح اللين، مع أن الأمة لم تعرف الارهاب من حكامها الا عندما أصبح حاكما عليها، و كان ارهاب الدولة الغنية القوية المسلحة يقوم و يستفز لأدني مبادرة يقدم فيها أحد علي النقد أو الاحتجاج أو مد اصبع أو يد بوجه أي من أعوانها.

و كان الأمر مدعاة لخوف أكبر اذا ما كان ناقلوا التهديد من زعماء الكوفة نفسها... فلو أن هؤلاء كانوا مع الجماهير و في مقدمتهم و لم يبالوا بأقوال الدولة الظالمة، لوجدت الجماهير نفسها في موقف قوي و لاستهانت بالتهديدات التي أصدرها ابن زياد، غير أن من صدر اليهم التهديد، أنفسهم، و من بين الأشراف و الزعماء قالوا: لا طاقة لنا بجيش الشام و قوة الشام و لا نستطيع حرمان أنفسنا من عطاء الشام و دنانير الشام، و ما دمنا كذلك فأولي بكم أن تكونوا أنتم كذلك.

كانت خطورة التهديد أنه كان صادرا من زعماء الكوفة عن لسان ابن زياد، أي أنه كان صادرا من قبل المهددين أنفسهم و من قبل شريحة قائدة مؤثرة منهم، أنهم يقولون لهم صراحة: انظروا الينا، ها نحن قد تخلينا عن القضية بأكملها، و أصبحنا الي جانب عدوكم لنتجنب شره و بطشه لأننا لا نستطيع مواجهته، و ما عليكم الا أن تلحقوا بنا، الآن و فورا، قبل هذه العشية، و الا فلا شأن لنا بكم... و ها أنتم ترون أننا قد تخلينا عنكم فعلا.

و قد فعل تحذير الأشراف فعله في نفوس الثوار و عوائلهم و عامة أهل الكوفة، حتي، (ان المرأة كانت تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف؛ الناس يكفونك؛ و يجي ء الرجل الي ابنه أو أخيه فيقول: غدا يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب و الشر! انصرف. فيذهب به؛ فما زالوا يتفرقون و يتصدعون حتي أمسي ابن عقيل و ما معه الا ثلاثون نفسا في المسجد، حتي صليت المغرب، فما صلي مع ابن عقيل الا ثلاثون نفسا، فلما رأي أنه قد أمسي و ليس معه الا أولئك النفر خرج متوجها نحو أبواب كنده، و بلغ الأبواب و معه منهم عشرة... ثم خرج من الباب و اذا ليس معه انسان،


و التفت فاذا هو لا يحس أحدا يدله علي الطريق، و لا يدله علي منزل و لا يواسيه بنفسه ان عرض له عدو...) [5] [6] .

أصبح من يريد الهزيمة، يبرر هزيمته بأن ما كان يجري انما هو خلاف بين أناس لهم نفس الدوافع و الأهداف، و ربما كانوا كلهم من الساعين للسلطان، و هو منطق يلجأ اليه المهزومون دائما، يبحثون عن أية حجة لتبرير انسحابهم من موقف مبدئي كانوا قد تبنوه، ثم أدركوا أن دون ما يريدون مصاعب و متاعب، فكأن فورة أهل الكوفة كانت فورة عاطفية فقلوبهم مع الحسين و أميرالمؤمنين و الحسن عليه السلام، غير أنهم عندما جوبهوا بالشر و تخاذل زعماؤهم سرعان ما غيروا رأيهم، و لم يكتفوا بالوقوف موقف الحياد و الخروج من ساحة المعركة، و انما انضموا الي الطرف الذي حسبوا أنه الأقوي و الأغني، و قاتلوا من كانوا الي جانبه من قبل. كانوا يقولون لبعضهم:

(ما نصنع بتعجيل الفتنة، و غدا تأتينا جموع أهل الشام، ينبغي لنا أن نقيم في منازلنا، و ندع هؤلاء القوم حتي يصلح الله ذات بينهم، ما لنا و الدخول بين السلاطين). [7] .



پاورقي

[1] وورد في اللهوف لابن‏طاووس ص 22 و مقتل الخوارزمي 206 - 1 (و مازال الناس يتواثبون حتي المساء و أقبلوا نحو القصر، فضاق بعبيدالله بن زياد أمره، و تحصن في القصر، و غلق الأبواب و اقتتل أصحابه و أصحاب مسلم ساعة).

[2] نفس المصادر، و النص عن الطبري 287 / 3.

[3] نفس المصادر السابقة.

[4] نفس المصادر السابقة، و النص عن الطبري 288 - 287 / 3.

[5] المصادر السابقة، و النص عن الطبري 288 / 3 و ذکر شاهد عيان يصف جيش مسلم و هو يتوجه لحصار ابن‏زياد، ثم تفرقه فيما بعد، قال: (لقيتهم تلک الليلة في الطريق عند مسجد الأنصار، فلم يکونوا يمرون في طريق يمينا و لا شمالا، الا و ذهبت منهم طائفة؛ الثلاثون و الأربعون، و نحو ذلک فلما بلغ السوق و هي ليلة مظلمة، و دخلوا المسجد، قيل لابن‏زياد: و الله ما نري کثير أحد، و لا نسمع أصوات کثير أحد، فأمر بسقف المسجد فقلع، ثم أمر بحرادي فيها النيران، فجعلوا ينظرون، فاذا قريب خمسين رجلا... فنزل، فصعد المنبر، و قال للناس: تميزوا أرباعا أرباعا فانطلق کل قوم الي رأس ربعهم، فنهض اليهم قوم يقاتلونهم، فجرح مسلم جراحة ثقيلة، و قتل ناس من أصحابه و انهزموا، فخرج مسلم، فدخل دارا من دور کندة) الطبري 299 / 3 و روي في الفتوح 87 / 5 أن مسلم قد أثخن بالجراح کما روي ذلک الطبري.

[6] و روي الطبري ان (ابن‏الأشعث و القعقاع بن شود و شبث بن ربعي قاتلوا مسلما و أصحابه عشية مسار مسلم الي قصر ابن‏زياد قتالا شديدا، و أن شبثا جعل يقول: انتظروا بهم الليل يتفرقوا؛ فقال له القعقاع: انک قد سددت علي الناس وجه مصيرهم، فافرج لهم ينسربوا 294 / 3.

[7] تاريخ ابي‏الفداء 300 / 8 و ابن‏الاثير 272 / 3 و الدر المسلوک 108 / 1.