بازگشت

صمود هاني ء بمواجهة تخاذل (الأشراف) و تهديدات ابن زياد


و كعادة الطغاة الذين يرون أن الناس مدينين لهم دائما و أنهم ينبغي أن يتوجهوا اليهم بالولاء و التقدير بل و العبادة، و الذين تثيرهم الي حد الجنون أية همسة أو تساؤل أو عمل من شأنه أن يقوم أو يصحح مسيرة شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، تميز ابن زياد غضبا بوجه هاني ء و أرعد و تهدد، فهو لم يفهم كيف أن فردا من الأمة المستعبدة يتصدي لازالة مركز الاستعباد و رمز الظلم و الاستبداد، ألم تنحني الأمة كلها أمامه و تسكت عن كل ممارساته و أخطائه، فلم يكلف نفر من هذه الأمة أنفسهم للقيام بهذه المهمة؟ و من كلفهم بذلك؟ هذا ما لم يستطع أحد من الطغاة أن يفهمه يوما من الأيام، طالما أنه لم يفهم أنه مقيد بشريعة و قانون الهي نافذ عليه و علي غيره، و طالما أنه لم ير سوي نفسه و هواه و مصالحه.


واستقبله استقبالا فظا آملا أن يروعه و يخيفه، غير أن هانئا لم ينحن لزوبعة ابن زياد التي أثارها بوجهه عند دخوله.

دخل الأشراف علي ابن زياد، و دخل هاني ء معهم (فلما طلع قال عبيدالله: أتتك بخائن رجلاه! فلما دنا من ابن زياد و عنده شريح القاضي، التفت نحوه، فقال:



اريد حياته و يريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد



ايه يا هاني ء بن عروة! ما هذه الأمور التي تربص في دورك لأميرالمؤمنين و عامة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، و جمعت له السلاح و الرجال في الدور حولك، و ظننت أن ذلك يخفي علي لك! [1] .

و حاول هاني ء انكار ذلك، فما كان يصح كشف حركة مسلم و لما تستكمل أمورها بعد، الا أن ابن زياد دعا (معقلا ذلك العين، فجاء حتي وقف بين يديه، فقال: أتعرف هذا؟ قال: نعم، و علم هاني ء عند ذلك أنه كان عينا عليهم، و أنه قد أتاه بأخبارهم، فسقط في خلده ساعة) [2] ثم أقر بوجود مسلم لديه، الا أنه امتنع عن تسليمه لابن زياد عندما طلب منه ذلك و قال: (لا و الله، لا اجيئك أبدا، أنا أجيئك بضيفي تقتله؟! قال: و الله لتأتيني به. قال: و الله لا آتيك به). [3] .

و قد تطوع أحد الحاضرين، و هو مسلم بن عمرو الباهلي، مبعوث يزيد الي ابن زياد و مرافقه بعد ذلك، بأن يقوم باقناع هاني ء لكي يستجيب لمطلب ابن زياد و حاول اخافته و طمأنته الي أن مسلم لن يقتل اذا ما دفع اليه، و جاء في أقواله: فادفعه اليه، فانه ليس عليك بذلك مخزاة و لا منقصة، انما تدفعه الي السلطان!

قال: بلي، و الله ان علي في ذلك للخزي و العار، أنا أدفع جاري و ضيفي و أنا حي صحيح أسمع و أري، شديد الساعد، كثير الأعوان! و الله لو لم أكن الا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتي أموت دونه، فأخذ يناشده و هو يقول: و الله لا أدفعه اليه أبدا، فسمع ابن زياد ذلك فقال: ادنوه مني، فأدنوه منه، فقال: و الله لتأتيني به أو


لأضربن عنقك، قال: اذا تكثر البارقة حول دارك: فقال: والهفا عليك، أبالبارقة تخوفني! و هو يظن أن عشيرته سيمنعونه. [4] .

و تكشف هذه المحادثة عن تضارب المفاهيم بين هاني ء و خصومه، فما يراه هاني ء غدرا و خيانة قد يلحق الخزي و العار به الي الأبد، يراه خصومه أمرا طبيعيا، فهم يستجيبون للسلطان ليأمنوا بذلك شره و سطوته و يحظون بنواله و عطفه و هو منطق غريب عن قيم الاسلام غير أنه قريب من منطق الطواغيت، مادام هو الذي يحقق رغباتهم و يدعم مصالحهم.

و اذا لم يتحمل ابن زياد هذا المنطق الرسالي الواضح من هاني ء عمد الي ما يعمد اليه أمثاله عادة في مثل هذه المواقف، و هو التلويح بسيفه، و قد هدد هانئا بالقتل، الا أنه قال تهديده بتهديد مماثل و لم يخف امامه أو يستجيب لطلبه.

و كان ابن زياد من البراعة بحيث أشرك عمرو بن الحجاج بمهمة استدراج هاني ء، و جعل الأمر يبدو و كأن قبيلته أو رؤوسا معروفة منها هي التي أسلمته، و لعله تواطأ مع ابن الحجاج و جماعة آخرين من قبيلته للتنكيل بشيخهم و زعيمهم الثائر ضد السلطة حتي لا يلحقهم ضيم أو بطش اذا ما ساروا وراءه، ان ايجاد مراكز قوي داخل القبيلة الواحدة بايجاد رؤساء محتملين و تقريبهم و دعمهم و ايجاد سلطات أخري مثل العرفاء و أمثالهم من شأنه أن يجعل ولاء القبيلة للسلطة لا لرئيسها وحده و لا للاسلام الذي دانت به و مع ذلك فان قربها أو بعدها منه أو فهمها له رهين بالكيفية التي يريدها السلطان الجائر.

و لعل الأمر لم يغب عن فطنة هاني ء، غير أنه لم يعدم أعوانا و أنصارا كانوا حتي لحظة التقائه بابن زياد يعدون العدة للانقضاض عليه، و قد ساروا لهذه المهمة فعلا كما سنري بعون الله، لولا أنهم جوبهوا بحملة مركزة لتخذيلهم و جعلهم يتخلون


عنها، و هكذا فلم يكن هاني ء مخطئا حين تصور أن قومه سينصرونه... غير أن الأمر اتخذ في غيابه مجري آخر بوجود زعماء متخاذلين أمثال عمرو بن الحجاج.

و قد تجلت دموية ابن زياد و حقده علي الحركة المناوئة للدولة الأموية التي كان يعد نفسه أحد أقطابها باقدامه علي ضرب هاني ء بنفسه و أمره باعتقاله ثم قتله بعد مسلم قتلة لم يقم أحد بها من قبل و كأنه أراد بذلك أن يمتاز و يشتهر و تكون له يد عند سيده يزيد اذا ما أبدي ذلك الانحياز المطلق له و الدعم التام لحكمه، و قد استفزه جواب هاني ء وعده اهانه شخصية له فقال: (ادنوه مني، فأدني، فاستعرض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب انفه و جبينه و خده حتي كسر أنفه، و سيل الدماء علي ثيابه، و نثر لحم خديه علي لحيته حتي كسر القضيب.

و ضرب هاني ء بيده الي قائم سيف شرطي من هؤلاء الرجال، و جابذه الرجل و منع، فقال عبيدالله: أحروري سائر اليوم؟ أحللت بنفسك، قد حل لنا قتلك، خذوه فألقوه في بيت من بيوت الدار، و أغلقوا عليه بابه، و اجعلوا عليه حرسا. ففعل ذلك به). [5] .

أما موقف الأشراف الذين جاءوا به الي ابن زياد، فكان متباينا و لعلهم لعبوا أدوارا متباينة ايضا، فعمرو بن الحجاج لم يدخل معهم - فيما يبدو - الي القصر، أما أسماء فقد احتج، و قد أهين و حجز أما ابن الأشعث فأبدي استكانة ذليلة و رآي أن من حق ابن زياد أن يقوم بأي اجراء ضد معارضيه و غيرهم.

قال أسماء بن خارجة (أرسل غدر سائر اليوم! أمرتنا أن نجيئك بالرجل، حتي اذا جئناك به، و أدخلناه عليك، هشمت وجهه، و سيلت دمه علي لحيته و زعمت أنك تقتله! فقال له عبيدالله: و انك لهاهنا! فأمر به فلهز و تعتع به، ثم ترك فحبس.

و أما محمد بن الأشعث فقال: قد رضينا بما رأي الأمير؛ لنا كان أم علينا، انما الأمير مؤدب). [6] .

لم يشم ابن زياد أي خطر منهما، بل لم يشعر بوجودهما، و لعل عمله بأسماء


كان من شأنه أن يغيضه ان كانت له كرامة، غير أن أسماء تحمل عبث أعوان ابن زياد به و سكت بعد أن رأي أنه قد قام بواجبه لاستنكار فعله ضد هاني ء.

أما ذلة ابن الأشعث فربما كانت حافزا لابن زياد لاستخدامه الي أبعد غاية ممكنة و تكليفه بكل المهمات القذرة التي قام بها بعد ذلك، كما سنري في غضون هذا الفصل بعون الله.


پاورقي

[1] الطبري 285 / 3، و ابن‏الأثير 391 / 3.

[2] نفس المصدر السابق.

[3] نفس المصدر السابق.

[4] الطبري 285 / 7 و ابن‏الاثير 392 / 3 و ذکر المسعودي في مروج الذهب 67 - 3 أن هانئا قال لابن‏زياد (ان لزياد أبيک عندي بلاء حسنا، و أنا أحب مکافأته به، فهل لک في خير؟ قال ابن‏زياد: ما هو؟ قال: تشخص الي أهل الشام أنت و ابنيک سالمين باموالکم، فانه قد جاء من هو أحق من صاحبک)، و راجع ابن‏کثير 156 / 8 و قيل ان هاني‏ء قال له: (و الله لو کان تحت قدمي ما رفعتهما عنه) ابن‏کثير 156 / 8.

[5] المصادر السابقة، و راجع العقد الفريد 120 / 5، و ابن‏کثير 156 / 8.

[6] نفس المرجع السابق.