بازگشت

بين خطاب... و خطاب


علي أنه كان من بعد النظر بحيث أدرك أنه اذا ما قام بمحاسبة الناس وفق مواقفهم السابقة، فان ذلك ربما يثيرهم و يجعلهم في ريبة من أمره و شك، و ربما عمدوا الي الوقوف ضده مع اعدائه الي النهاية اذا ما وجدوا أنفسهم متهمين عنده.

و قد قام بخطوة كان من شأنها تخفيف الضغط النفسي علي أولئك الذين وقفوا ضد الدولة الأموية، و كانت بمثابة خط رجعة لهم للعودة الي صفوف أعوان الدولة. و هي خطوة ماكرة ذكية جديرة بمعاوية نفسه أو زياد أو المغيرة.


فقد صرح بعيد خطابه، لطمأنة من يكون الخوف قد تسرب الي قلبه.

(اني لأعلم أنه قد سار معي، و أظهر الطاعة لي، من هو عدو للحسين حين ظن أن الحسين قد دخل البلد و غلب عليه. و الله ما عرفت منكم أحدا). [1] .

و علي أثر خطابه و تهديداته و تطميناته أصدر تعليماته المشددة الي أعوان الدولة و موظفيها من العرفاء و الشرطة و الجنود و رؤساء القبائل و الأشراف و غيرهم.

(فأخذ العرفاء و الناس أخذا شديدا، فقال: اكتبوا الي الغرباء، و من فيكم من طلبة أميرالمؤمنين، و من فيكم من الحرورية و أهل الريب الذين رأيهم الخلاف و الشقاق، فمن كتبهم لنا فبري ء، و من لم يكتب لنا أحدا، فيضمن لنا ما في عرافته ألا يخالفنا منهم مخالف، و لا يبغي علينا منهم باغ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة، و حلال لنا ماله و سفك دمه، و أيما عريف وجد في عرافته من بغية اميرالمؤمنين أحد لم يرفعه الينا، صلب علي باب داره، و ألقيت تلك العرافة من العطاء، و سير الي موضع بعمان الزارة). [2] .

و مع أنه لم يقل للناس هنا ما قاله صراحة في البصرة بأنه سيأخذ علي الظنة و القريب بالبعيد، اذ أنه لو صرح بذلك من أول وهلة لاستنفر الناس و جعلهم يعمدون الي اخراجه أو قتله و هم متهيؤون لذلك خصوصا و أن مسلم قد سبقه الي الكوفة و أخد ببيعة أهلها للحسين عليه السلام، كما لم يشر في خطابه الي مسلم أو الحسين عليه السلام و ربما آثر أن يفعل ذلك في مرة قادمة.

أما مع موظفي الدولة من العرفاء و أشباههم، فلم ير أن ينهج النهج نفسه، فهؤلاء قد وظفتهم الدولة و أعطتهم رواتبهم و امتيازاتهم و ربما جعلت منهم قوة مقابل قوة رؤساء القبائل لايجاد موازنة بينهم لصالحها، فهم محسوبون عليها، و ينتظرون نوال الحاكم و عطائه و يخافون غضبه و سطوته و منعه، فلم يكن ابن زياد يتحرج منذ البداية من كشف نفسه أمامهم.

و كانت الاجراءات التي طلبها ابن زياد مألوفة في ظل النظام الأموي الذي أوجد


سلسلة اخطبوطية من الأعوان و الأزلام لكتم أنفاس الناس و الحد من حرياتهم و تحركاتهم، و موضع عمان الزارة هذا الذي أشار اليه بتعليماته يبدو و كأنه أحد الأماكن النائية التي لا تتوفر فيها أي وسائل للراحة، و ربما كان منفي للجنود و الناس المغضوب عليهم من قبل الدولة.

و قد استنفر ابن زياد موظفي الدولة الخانعين هؤلاء، و أرسلهم في أضخم حملة تفتيشية تجري في الكوفة للتعرف علي قوة مسلم و نفوذه و أماكن تجمع انصاره و مريديه، و كان يسر هؤلاء حتما أن يستجيبوا لهذا المسؤول الكبير الذي يرجون نواله و يخشون بأسه و سطوته و هم قد سمعوا عنه الكثير و عرفوا أباه من قبل، ذلك الذي صلب آباءهم و اخوتهم علي جذوع النخل و سلب أموالهم لأنهم كانوا من الموالين لأميرالمؤمنين عليه السلام، و يعلمون أنه - كأبيه - جري ء في سفك الدماء لأدني سبب حتي ولو كان لا يستوجب أدني عقوبة.

و كدليل علي صرامته و شدته، عمد ابن زياد الي قتل جماعة من أهل الكوفة ربما اتهمهم بأنهم من أعوان مسلم أو أنهم من الخوارج أو دبر لهم تهما مختلفة بقصد اشاعة الارهاب و الخوف هناك. [3] .

و يبدو أن ابن زياد قد فعل الكثير لمواجهة المعارضة التي كان يتزعمها مسلم، و قام بالعديد من المهام التي ساعدته علي رصد تحركات الثوار و مراقبتها و بث عناصره و أعوانه بينها لتخذيلهم و اشاعة الخوف بين صفوفهم، و قد شجعه ذلك علي القاء خطبة نارية مشابهة لتلك التي القاها في البصرة، و قد جاء فيها:

(أما بعد: فانه لا يصلح هذا الأمر الا في شدة من غير عنف، ولين من غير ضعف، و أن آخذ البري ء بالسقيم، و الشاهد بالغائب، و الولي بالولي). [4] .

و هو أسلوب الغشم الأموي الذي لا يشابه الأسلوب الاسلامي بأي حال من الأحوال و الذي غالبا ما يلجأ اليه الطغاة لتبرير ظلمهم و استهتارهم و شدتهم.

و قد أثار هذا الأسلوب مشاعر الناس، فانبري له أحد أهالي الكوفة، أسد بن عبدالله المري قائلا:


(ان الله تبارك و تعالي يقول: (و لا تزر وازرة وزر أخري)، انما المرء بجده و السيف بحده، و الفرس بشده. و عليك أن تقول و علينا أن نسمع، فلا تقدم فينا السيئة قبل الحسنة). [5] .

و مع أن هذا الرجل يعد بالسمع و الطاعة، الا أنه ربما قد رأي أن هذه الخطبة غير جديرة بالسامعين المطيعين، و انها جديرة بمن أعلن عداوته و حربه، و ربما رأي أن له دالة علي (اميره) بسمعه و طاعته و ربما محبته، غير أنه لم يملك الا أن يذكر هذا الأمير بالقانون الالهي المبين، فهو وحده الكفيل بردع الانسان عن السيئة، السيئة الحقيقية، لا التي يراها الظالمون و أتباعهم.

و سواء صرح ابن زياد أم لم يصرح بقانونه الجائر، الذي هو قانون دولة الظلم الأموية كلها، فان ممارسات هذه الدولة دلت علي أن هذا القانون كان هو النافذ و البديل للقانون الاسلامي الصحيح.

كان الشك و الأخذ علي التهمة و الظنة هو القاعدة السائدة في ظل دول الجور و كان العدل و الاستقامة و قوانين الاسلام هي الاستثناء و تطبيق أي منها مرهون بمزاج الحاكم و مصالحه و أهوائه.


پاورقي

[1] الطبري 282 / 3.

[2] الطبري 281 / 3، و ابن‏الأثير 389 / 3، و الارشاد للمفيد 188، و نهاية الارب للنويري 391 - 20.

[3] الفصول المهمة لابن‏الصباغ ص 197، و وسيلة المآل 186.

[4] الفتوح 67 / 5.

[5] نفس المصدر السابق.