بازگشت

مسلم... علي مستوي المهمة الموكلة اليه


و عندما وردت كتب أهل الكوفة الي الحسين عليه السلام تستدعيه، و تعلن ولاء العراقيين له، و استعدادهم ليكونوا خلفه جندا مجندة (دعا مسلم بن عقيل فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي و عمارة بن عبيد السلولي و عبد الرحمن بن عبدالله بن الكدن الارحبي فأمره بتقوي الله و كتمان أمره و اللطف، فان رأي الناس مجتمعين، مستوثقين عجل اليه بذلك). [1] .

لقد بعثه الي الكوفة (ليكشف له حقيقة هذا الأمر و الاتفاق، فان كان متحتما و أمرا حازما محكما بعث له ليركب في أهله و ذويه و يأتي الكوفة). [2] .


ان دراسة واعية لسيرة مسلم بن عقيل و الجو الذي تربي فيه مع الامامين الحسن و الحسين عليهم السلام في ظل أميرالمومنين و الأحداث و المتغيرات التي عاصرها و كان مشاركا في بعضها كوقائع الجمل و صفين و النهروان، قد تتيح لنا الاطلاع علي سبب اختيار الامام الحسين عليه السلام له لأداء هذه المهمة الدقيقة بين أهل الكوفة الذين تتقاذفهم التيارات و القوي المختلفة و منها التيار الأموي المتنفذ.

و محصلة سيرته ترينا أنه كان من نمط الرساليين الذين لا يرون أمامهم سوي الاسلام و سوي المبادي ء العظيمة التي جاء بها، و الذين يقدمون الي هدفهم دون تردد خوفا من سيف الظالم، ماداموا علي الحق، و ماداموا يرون أن مستقبل الاسلام و حياته يتعرضان للخطر، و يتوقفان علي سلوكهم في المواقف الحاسمة و الظروف الدقيقة كتلك التي كانت تمر بها الأمة في ظل قيادة يزيد.

و لعل وقفته الباسلة في الكوفة بكل ما حملته من صور بدا فيها الالتزام التام بمنهج أميرالمؤمنين عليه السلام في التعامل مع العدو و وضوح التوجه و التصور و الفعل و الشجاعة الفائقة عند النزال و عدم التخاذل و التنازل عن مواقف الحق، لفتت الأنظار اليها بشكل خاص و جعلت الباحثين يهملون جوانب عديدة من حياته قبل الثورة، و لعل للاعلام الأموي فعله الكبير للتغطية علي الشخصيات المناوئة للحكم، و التي قامت بأدوار فعالة للتصدي لانحرافه و ظلمه، و منها شخصية مسلم بن عقيل، و هو أمر جدير بالانتباه اليه عند التعرض الي أمثال هذه الدراسات.

و قد علم الامام الحسين عليه السلام أن مسلم سيكون علي مستوي المهمة التي أوفد اليها، كما دلت النصوص التي بين ايدينا و رسالة الحسين الي أهل الكوفة أنه عليه السلام كان حريصا علي استطلاع الموقف بشكل دقيق قبل القدوم اليهم، و هو أمر يزيل الشك الذي حاول زرعه أعداء الامام بأنه كان متلهفا علي الذهاب دون دراسة الموقف أو النظر الي العواقب.


فالامام لم يكن ليذهب الي أناس ناصبوه العداء و أبدوا عدم استعدادهم لاستقباله، بل ذهب الي أناس أبدوا رغبة شديدة في قدومه، و لعل موقفهم الأخير من مسلم لو كان قد وصله و هو في مكة أو في الطريق قبل أن يحاصره الحر، و اطلعت عليه الأمة، و رأت أن أهل العراق كانوا غير صادقين و غير ثابتين علي مواقفهم منذ البداية، قد رتب علي الحسين عليه السلام اتخاذ موقف آخر بدوره، و هو ما لم يستطع فعله أمام موقفهم المعلن لدعمه و تأييده، و لم يستطع الا السير اليهم و الاستجابة لهم رغم معرفته و احتماله الأكيد لانقلابهم عليه، لأنه لو لم يسر اليهم بعد تلك الدعوة الملحة لكان قد تحمل مسؤولية تاريخية كبري أمام أجيال المسلمين كلها، و لوجدنا من يحمله مسؤولية السقوط و الهزيمة أمام يزيد و دولة الظلم الأموية.

و معرفته الأكيدة بهم، و الاخبار المسبق باستشهاده لم يمنعانه أمام موقفهم المعلن لتأييده، من السير اليهم، فهو أدي دوره أمام الأمة و استجاب لمن دعاه للثورة علي دولة الظلم و تحمل مسؤوليته كاملة و سار الي نهاية الشوط، فلم تبق حجة لمعتذر أو متكاسل أو محتج، أما من سقط و تراجع و تخاذل و استسلم (و هم أهل الكوفة)، فقد تحملوا مسؤولية سقوطهم و تراجعهم و تخاذلهم و استسلامهم، و موقفهم لا يرتب علي الأمة كلها أن تستسلم، لأنهم ليسوا كالحسين عليه السلام في مسؤوليته و موقعه، و قد ندموا علي ذلك فعلا بعد اقدام الامام عليه السلام علي اتمام مهمته الي النهاية و أدركوا خطأهم القاتل الذي راح ضحيته امام الأمة عليه السلام نفسه.

كما تدل رسائل الامام عليه السلام الي أهل الكوفة علي حرصه لحثهم علي الثبات و الصمود و تجعل من ذلك شرطا لقدومه عليهم.

ففي هذه الرسائل و في وصيته لمسلم لفتة مهمة من جانب الامام الي واقع أهل الكوفة و محاولة منه لجعلهم بمستوي المهمة التي كانوا يتصدون لها و بمستوي و عودهم التي بذلوها، كتب الامام عليه السلام الي أهل الكوفة:

(بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن علي الي الملا من المؤمنين و المسلمين؛ أما بعد، فان هانئا و سعيدا قدما علي بكتبكم، و كانا آخر من قدم علي من رسلكم، و قد فهمت كل الذي اقتصصتم و ذكرتم، و مقالة جلكم: انه ليس علينا امام، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك علي الهدي و الحق. و قد بعثت اليكم أخي و ابن عمي و ثقتي من أهل بيتي، و أمرته أن يكتب الي بحالكم و أمركم و رأيكم، فان كتب الي أنه قد أجمع رأي ملئكم و ذوي الفضل و الحجي منكم، علي مثل ما قدمت علي به


رسلكم، و قرأت في كتبكم، أقدم عليكم و شيكا ان شاء الله؛ فلعمري ما الامام الا العامل بالكتاب و الآخذ بالقسط، و الدائن بالحق، و الحابس نفسه علي ذات الله). [3] .

و لم يكن مسلم يجهل صعوبة المهمة التي انتدبه لها الامام عليه السلام، و لم يكن يجهل طبيعة المجتمع الكوفي المستهدف بالظلم من قبل الدولة باعتباره مجتمعا معاديا لها، و الذي كان يتذبذب و يتقلب بفعل سياسة الغشم الأموية و يجعل أفراده من ذلك وسيلة لحفظ أرواحهم و ممتلكاتهم، و هو أمر طبيعي في كل مجتمع تهدر كرامته و تشدد القبضة عليه و يستهدف بالجور و العدوان، و كان يعلم أنه سيلاقي صعوبات جمة و قد يكلفه الأمر حياته، و لعله اطلع علي طرف مما ورد بخصوص استشهاد


محتمل مع الامام الحسين عليه السلام، و قد يكون الامام عليه السلام قد ألمح الي ذلك [4] ، مع ذلك فانه قام بمهمته الصعبة خير قيام دون تردد أو خوف، واضعا أمامه هدفه الكبير و هو الانتصار للاسلام، و هو ما سنراه في غضون هذا البحث بعون الله.


پاورقي

[1] الطبري 108 / 6 و ابن‏الأثير 386 / 3 و قال له: (سر الي الکوفة فانظر ما کتبوا به الي، فان کان حقا خرجنا اليهم..) الطبري 275 / 3.

[2] ابن‏کثير 154 / 8 و قد أوصاه قائلا: (اني موجهک الي أهل الکوفة، و سيقضي الله من أمرک ما يحب و يرضي، و أنا أرجو أن أکون أنا و أنت في درجة الشهداء، فامض ببرکة الله و عونه حتي تدخل الکوفة، فاذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها، وادع الناس الي طاعتي، فان رأيتهم مجتمعين علي بيعتي فعجل علي بالخبر حتي أعمل علي حسب ذلک ان شاء الله تعالي) أنساب الأشراف للبلاذري، ج 3 ص 159 ط بيروت، و تذکرة الخواص لابن الجوزي ص 244 ط النجف، و روضة الواعظين ص 173 ط النجف، و البحار للمجلسي م 10 ج 44 ص 335 ط طهران، مع اختلافات بسيطة في النص.

[3] و قد روي الطبري أن الامام أرسل هذه الرسالة مع هاني‏ء بن هاني‏ء السبيعي و سعيد بن عبدالله الحنفي (الطبري 278 / 3) و ذکر ذلک مؤرخون آخرون، ابن‏الأثير 267 / 3 و روضة الواعظين النجف 173، و بحارالأنوار ج 44 ص 334، و الارشاد 186 و أعيان الشيعة للأمين ق 1 ج 160 - 4، و الأخبار الطوال لابن قتيبة 210، و المناقب لابن شهر آشوب ط قم - 90، و نهاية الارب للنويري ط القاهرة 387 - 2، و روي الخوارزمي في مقتله ج 1 ف 10، و ابن‏الجوزي في تذکرة الخواص ط النجف ص 244 ان الامام عليه‏السلام أرسل هذه الرسالة مع مسلم نفسه، کما قد يدل مضمون الرسالة علي ذلک، و ربما کتب الامام رسالة أخري قريبة الموضوع من هذه، و ربما أرسل نسختين من الرسالة.

فقد ذکر أن الامام کتب الي أهل الکوفة (أما بعد فقد وصلتني کتبکم، و فهمت ما اقتضته آراؤکم، و قد بعثت اليکم ثقتي و ابن عمي مسلم بن عقيل، و سأقدم عليکم وشيکا في أثره ان شاء الله). وسيلة المآل (ص 186)، وردت في حياة الامام الحسين بن علي القرشي 339 2 و يبدو أن هذه کانت اختصارا للرسالة السابقة، اذ لماذا يبعث الامام عليه‏السلام مبعوثه و ابن عمه مسلما ان لم يکن يريد التمهيد لمقدمه و حث أهل الکوفة علي الصمود و عدم التراجع. و قد وردت الرسالة بصيغة مشابهة (الاخبار الطوال ص 210) من الحسين بن علي الي من بلغه کتابي هذا من أوليائه و شيعته بالکوفة، سلام عليکم، أما بعد فقد أتتني کتبکم و فهمت ما ذکرتم من محبتکم لقدومي عليکم، و أنا باعث اليکم بأخي و ابن عمي و ثقتي من أهلي مسلم بن عقيل ليعلم لي کنه أمرکم و يکتب الي بما يتبين له من اجتماعکم، فان کان أمرکم علي ما أتتني به کتبکم و أخبرتني به رسلکم أسرعت القدوم اليکم ان شاء الله، والسلام)..

و مهما يکن، فاننا نلمس اهتمام الحسين عليه‏السلام بتشجيع أهل الکوفة علي الثبات و عدم التراجع و فيه يشير من طرف خفي الي مواقفهم السابقة و عدم اطمئنانه الي وعودهم و لعله بذلک يثير هممهم و يستنهضهم و يؤکد علي أهمية قيامهم بوجه السلطة المنحرفة.

[4] روي الصدوق في الأمالي م 27 بسنده عن ابن‏عباس عن أميرالمؤمنين عليه‏السلام أنه قال لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: يا رسول الله، انک لتحب عقيلا؟ قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: أي والله اني لأحبه حبين، حبا له، و حبا لحب أبي‏طالب له، و ان ولده لمقتول في محبة ولدک فتدمع عليه عيون المؤمنين و تصلي عليه الملائکة المقربون قال ثم بکي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم حتي جرت دموعه علي صدره، ثم قال: الي الله أشکو ما تلقي عترتي من بعدي).