بازگشت

تمهيد


يكاد يكون خروج مسلم بن عقيل بن ابي طالب و ابن عم الامام الحسين عليه السلام [1] ، الي العراق ملحمة لوحدها، تكون مع اختها ملحمة الطف، أهم حدث أثر علي حياة المسلمين و مصيرهم، مع أن العديد من المؤرخين المسلمين و غيرهم لم يلتفتوا اليها و لم يدرسوها علي هذا الأساس و نظير كثيرون منهم اليها كحدثين مأساويين لم تعد لهما عدتهما، و قد نجم عنهما موت العديدين ميتة بشعة، و كان لهم أن يحفظوا أرواحهم دون اللجوء الي مواجهة الدولة الأموية القوية!

و لو أن الثورة حققت هدفها علي المدي القصير و انتصرت عسكريا و انتزعت السلطة من يزيد، لرأينا منطق هؤلاء يختلف عن منطقهم الحالي، و لرأينا حينذاك كيف سيعمد هؤلاء الي اعتبار خروج الحسين عليه السلام و قبله مسلم بن عقيل الي العراق الحدث الطبيعي الذي كان ينبغي أن يتم في ظل تلك الظروف.

لكنهم عندما ينظرون الي النتائج المباشرة التي تمخضت عنها الثورة، و هي


مقتل الحسين و أصحابه عليهم السلام و سبي نسائه و أطفاله، و خلو الجو ليزيد و أعوانه ليتمادوا في عبثهم و طغيانهم، راحوا يصبون اللوم عليهم، و يعتبرون أن خروجهم كان مجازفة خطيرة و أمرا من شأنه أن يزعزع أمن المسلمين و وحدتهم و ألفتهم و جماعتهم؛ و يعمدون الي نفس المبررات التي عمد اليها أركان السلطة الغاشمة، ليقمعوا الثورة بذلك الشكل الدموي العنيف.

و لا شك أننا سنلمس من خلال مسيرة مسلم الي العراق، و ما وقع له من حوادث في الكوفة و حواره مع ابن زياد و صلابته حتي آخر لحظة من حياته رغم التهديد و المعاملة العنيفة التي أخذ بها، و رغم اصابته بالعديد من الجروح البليغة، قناعته التامة بسلامة موقفة المؤيد لامام الأمة، و حرصه الشديد علي أن تتمثل طاعته له في حسن الأداء، و المضي بمهمته التي انتدبه اليها الي النهاية، حتي و هو يقف وحيدا مخذولا جريحا أمام ابن زياد و جنده و حرسه و حاشيته و يذهب به ليرمي من أعلي شرفات القصر لتتهشم أعضاؤه و جسمه.

و قد أخذ العديدون علي مسلم عدم لجوئه الي نفس الأساليب الأموية الغادرة، التي كان ينبغي - بنظرهم - أن يلجأ اليها، و هو يواجه قوتهم و يسعي الي ازالة دولتهم (ان رسول الحسين الي أهل العراق، لم يكن علي قدر المهمة المطلوبة، فقد جاءته فرصة تمكن فيها من عدوه عبيدالله بن زياد، فلم يقتله، تدينا أو تجبنا، فكيف يخرج علي يزيد و يقاتله، و لا يقتل عبيدالله، و كلهم سواء؟). [2] .

ان هذا القول - و قد اخترته هنا - لأنه معاد و مكرر، و هو يطرح غالبا عند تناول عمل مسلم في الكوفة، يدل علي جهل مطبق بطبيعة هذا الرجل الذي ينتمي الي عائلة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم نفسها، و نشأ مع نفس الجيل الذي تلقي الاسلام نقيا واضحا دون تزييف أو تغيير، عن أهل الاسلام أنفسهم و عن مصدره الثاني بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم؛ أميرالمؤمنين عليه السلام، كما أن هذا القول يدل علي جهل بالمهمة الرسالية الكبيرة التي انتدب لها من قبل ابن عمه عليه السلام، فكان لابد أن ينظر الي الأمور بغير النظرة النفعية التي ينظر بها غيره من طلاب الحكم و الجاه و الثروة و الذين يوالونهم و يزينون لهم أعمالهم من الشعراء و المؤرخين و رواة السير و (المحدثين) و أشباههم، و أولئك الذين


يعالجون الأحداث و الأوضاع الاسلامية بتصورات و أساليب و أدوات غير اسلامية، و كان لابد أن يري هؤلاء في مواقف الحسين عليه السلام أو مسلم غير ما كانوا يتوقعونه لو كان يزيد أو ابن زياد في تلك المواقف مثلا، عندما يكون هناك خلاف أو منافسة علي السلطة و حسب، دون أخذ المبادي ء بنظر الاعتبار...

لم يفهم أحد من هؤلاء المؤرخين اقدام الحسين عليه السلام علي الايعاز لفتيانه و أصحابه لتزويد الحر و جماعته بالماء و قد أتوا لمحاصرتهم، و قد منعوهم الماء بعد ذلك مع بقية جيش ابن زياد، كما لم يفهم أحد منهم سبب سماح اميرالمؤمنين عليه السلام لجيش معاوية ورود الماء الذي منعوهم عنه قبل ذلك، كما أخذوا عليه العديد من المواقف الأخري التي حاولوا بها أن يدللوا علي (قصوره) في مجال السياسة و الحكم، و منها عدم السماح باقرار معاوية أو ولاة عثمان السابقين علي مناصبهم لحين استتباب الأمور لصالحه، و هو ما تحدثنا عنه في هذه الدراسة و أوضحنا أسبابه الحقيقية.

انهم لم ينظروا الي هذه المعارك الا من جانبها الصحيحة البحت، و حتي هذا الجانب لم ينظروا اليه من خلال النظرة الاسلامية الصحيحة، و كأن هذه المعارك و المواقف تدور حول مغانم شخصية، لا علاقة لها بدين أو مبادي ء و في عصور أو مجتمعات جاهلية، و أن لا مقاييس فيها تتبع الا مقاييس الغلبة علي الطريقة الاسبارطية و معارك القياصرة و الأباطرة فيما مضي من الزمن، أما مقاييس الاسلام و وصايا رسوله صلي الله عليه و آله و سلم بهذا الشأن و مختلف الأمور المتعلقة به، فلا أثر له علي الاطلاق.

انهم يريدون من الحسين و رجاله أن يقاتلوا دفاعا عن الاسلام بعقلية غير اسلامية و توجه غير اسلامي و أدوات غير اسلامية، و من هنا جاءت حيرة بعض المؤرخين و الدارسين بشأن بعض المواقف المبدئية للحسين و أصحابه عليهم السلام، و منهم مسلم بن عقيل.

لقد عرف مسلم وراء من كان يسير، بل كان أعرف الناس بامامه و قائده و ريث رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أميرالمؤمنين عليه السلام و وارث رسالات الأنبياء و الرسل عبر مسيرة البشرية الطويلة، و لم يكن في أي موقف من مواقفه أثرا لخوف أو شك أو تردد، كما لم يكن لأي من أصحابه مثل ذلك الموقف المتردد، فقد مضوا معه الي نهاية الشوط


و استشهدوا بين يديه، مسجلين بذلك موقفا لن ينسي من الأمة مهما امتد الزمن، و مهما تباعد عن وقت ذلك الحدث الكبير.

ان هذه المعرفة الأكيدة، و ذلك العزم الشديد، الذي لم تشبه شائبة التردد أو الخوف أو الطمع هو الذي جعل من مسلم واحدا من تلك الصفوة التي تتطلع اليها الأمة في كل وقت، و تري في مواقفها الباسلة، ما تشحذ به عزمها، و تجدد به اصرارها علي انتهاج طريق الحق الذي انتهجته و عدم الحيدة عنه مهما بلغت الصعوبات و مهما واجهت من الشدائد، و هل أشد من الصعوبات و الشدائد التي واجهها مسلم و هو يقف وحيدا أعزل بوجه السلطة الأموية الجائرة المتسلطة؟

ان في كل موقف من المواقف التي اتخذها مسلم منذ وصوله الي الكوفة و حتي استشهاده، موضعا لتأمل عميق و دروس كبيرة، لابد أن نخرج منها بحصيلة واسعة لكي نضيفها الي مجمل حصيلتنا عن رجال هذه الثورة، و عن كل من وقف مع الاسلام في كل مراحل وجوده، حينما وجدوا فيه سعادتهم و راحتهم و خلاصهم و مستقبلهم في ظل العناية الالهية و التسديد الرباني المبين.


پاورقي

[1] هو مسلم بن عقيل بن ابي‏طالب بن عبدالمطلب ابن عم الامام الحسين عليه‏السلام بن علي بن ابي‏طالب عليه‏السلام ولد مسلم في المدينة و استشهد في الکوفة عام ستين و روي أن عمره کان 34 أو 38 سنة و ربما کان أکثر من ذلک و قد نشأ في بيت عمه اميرالمؤمنين عليه‏السلام و حضر معه وقائع الجمل و صفين و النهروان، و کان لنشأته مع ابني عمه الحسن و الحسين عليه‏السلام أثره البالغ في سلوکه و تربيته الرسالية، و تحمله مسؤولية السفارة بين الحسين عليه‏السلام و أهل الکوفة و أدائه الرائع لرص الصفوف حوله و رفضه التخلي عنه و مواجهته الشجاعة للطاغية ابن‏زياد و دولة الظلم الأمورية.. و قد کانت زوجته رقية الصغري بنت أميرالمؤمنين عليه‏السلام مع الحسين عليه‏السلام في رکبه مع بنتها و أولادها الذين استشهدوا في واقعة الطف و بعدها... و لعل مميزاته الشخصية الفريدة جعلت الامام عليه‏السلام يري فيه الشخص المؤهل الوحيد القادر علي القيام بالمهمة التي قام بها، کما سنري في غضون هذه الدراسة بعون الله تعالي.

[2] محمد سليمان العبده، حرکة النفس الزکية، دار الأرقم - الکويت ط 1983، 1، المقدمة.