بازگشت

نصوص الثورة الحسينية تخلد دور الشاهد


كانت حجج الامام عليه السلام بالغة و كلماته المنتقاة معبرة و قوية و واضحة الي أبعد حد، و لعله قد أراد لها ان تطرق الاسماع و تكون بدورها شهيدة علي الجميع حتي ولو بعد مئات السنين.

لقد كشف لهم الأوضاع التي مروا بها و عاشوها في ظل دولة الظلم و الانحراف و التي ربما أصبحت مقبولة لديهم بحكم العادة و الالفة، و أراهم أنه لابد من التغيير، و انه هو عليه السلام أحق من يقوم بهذه المهمة و أحق من غير، و أنهم مسؤولون جميعا بالمشاركة معه في عملية التغيير هذه.

لم يغظه استسلامهم و هزيمتهم بقدر ما أحزنه ذلك، و لعله كان حزينا عليهم أكثر من حزنه علي نفسه، ألم يحدثه أبوه عن جده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قوله:(ان الدنيا


سجن المؤمن و جنة الكافر، و الموت جسر هؤلاء الي جناتهم، و جسر هؤلاء الي جحيمهم). [1] .

هل يحزن علي نفسه من يري أن الجنة أمامه، بل هي قريبة منه الي هذا الحد؟

أراهم أن كل واحد منهم ظالم لنفسه و لغيره، و أنهم ضحايا أيضا ماداموا يذعنون و ينفذون خطط السلطة الجائرة التي سرقت مكاسب المسلمين و استأثرت بالسلطة و الجاه و المال، و كانوا مجرد أداة من أدواتها الشريرة للعبث و الجور.

كان الحسين عليه السلام بفعله ذاك و أقواله شهيدا علي أمته في عصره، و شهيدا عليها في كل العصور، أرادها أن تنتبه للظالمين و المنحرفين و الخارجين عن الاسلام، و أرادها ان تعود الي الكتاب الذي أهمل و السنة التي أميتت و أن تترك البدعة التي أحييت، و أراد تنبيهها الي ان تنهج نهج قادتها الحقيقيين و أئمتها الي الحق و الاسلام، و تترك من سار فيها بالجور و العدوان، و كان يحزنه أن تستسلم هذه الأمة ذلك الاستسلام المهين لأعدائها و تسير خلف من تركوا طاعة الرحمن و لزموا طاعة الشيطان، و اظهروا الفساد و عطلوا الحدود و استأثروا بالفي ء و أحلوا حرام الله و حرموا حلاله.

كان استنكاره لحالة الظلم توبيخا و تقريعا لهم، عندما كان يلفت انظارهم الي الحقيقة الموسفة التي كانوا يأبون الالتفات اليها، (ألا ترون أن الحق لا يعمل به و الباطل لا يتناهي عنه؟)، و كان ذلك بفعل مقصود مدبر.

ماذا يستطيع المؤمن أن يفعل في جو فاسد كهذا؟ هل ينغمس فيه و يدنس نفسه و يلوثها، أم يبتعد عنه و يرغب في لقاء ربه محقا؟ هل يساوم الظالمين و يلتحق بركبهم ليكون واحدا منهم؟ أم يمضي في مهمته الرسالية الي النهاية...؟ و هكذا صرخ عندما لم يستجيبوا له و واجهوه بذلك الصمت الذليل و الجباه المطرقة، علهم يفيقون و ينتبهون، انه يواجه لحظاته الأخيرة بشجاعة و سعادة غامرة، فليس لديه شك بمصيره


مع جده صلي الله عليه و آله و سلم، و هم يواجهون (حياة) يحيط بها الموت في ظل الاستبداد و التسلط و الظلم، حياة غير لائقة الا بالأذلاء الذين فقدوا كل شعور بالكرامة.

(فاني لا أري الموت الا سعادة، و لا الحياة مع الظالمين الا برما).

لقد آلمه خضوعهم و استسلامهم و سكوتهم و اطراقهم، و حاول بشتي السبل أن يستثير فيهم نخوة الاسلام. و حماسته و غيرته، و كان يريد حياتهم حياة كل الأمة و ان أدي الأمر الي أن يفقد حياته هو، فلماذا لا تستجيب له الأمة، و لماذا تراجعت عن رسالتها و أهدافها؟ و هل كان الصراع بينه و بين من أخرجهم يزيد لقاتله شخصيا؟

(أخبروني، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته أو بقصاص من جراحة؟) [2] .

أراد اشعارهم انه انما كان يخرج لأجلهم، و ان ليس بينه و بينهم ثأر أو خصومة أو تنازع علي مال، و أنهم انما كانوا ينساقون كالانعام وراء عدوهم و جلادهم لقتله الذي لن يكون الا في مصلحة هذا الجلاد و حسب، و انهم ينساقون وراء أوهامهم اذا ما صدقوا هذا الجلاد، الذي ربما أراد ايمامهم بأن الحسين عليه السلام كان يقصدهم هم بثورته، و قد تؤثر هذه الثورة علي معائشهم و مصائرهم، و ربما تكدر صفو عيشهم الذليل.

و حتي هذا الأمر، لفت الامام عليه السلام أنظارهم اليه، و ما عساه أن يفعل أمام تلك النفوس التي أبت الا أن تظل في سباتها و جهلها و غفلتها؟ لم يملك الا ان يصرخ بهم صرخته الأخيرة، بعد أن أدرك أن لا أمل يرتجي منهم، و أنهم أعطوا بأيديهم اعطاء الذليل و أقروا اقرار العبيد، و استسلموا لعدوهم، لتظل شاهدا عليهم و علي أوضاعهم المأساوية التي بلغتها الأمة كلها حين تنازلت عن كرامتها و وجودها كأمة مسلمة، و استسلمت ليزيد و سارت وراءه دون وعي أو ارادة، تنفذ اغراضه و تنقاد لهواه.

(لا و الله لا أعطيهم بيدي اعطاء الذليل و لا أقر اقرار العبيد، عباد الله اني عذت بربي و ربكم أن ترجمون. أعوذ بربي و ربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب). [3] .


و لم يجد مما رآه منهم، بارقة امل، فقد كان الخضوع و الخوف و الاستسلام هو الطابع الذي طبع تصرفاتهم، و رأي ان لا امل بتراجعهم عن ذلك الاستسلام المخزي، رأي انهم قاتلوه، و قد حاول ان يثير فيهم بقايا النخوة العربية و الشهامة التي تمتع بها بعض أجدادهم لا لكي يبقوا عليه، فذلك أمر لو أراده لكان يسيرا عليه، فهو لم يعر حياته اهتماما أمام المهمة الكبيرة التي كان يتصدي لانجازها، ولكن لكي يمنعوا رحله و أهله من طغامهم و جهالهم.

(ويلكم ان لم يكن لكم دين، و كنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا في أمر دنياكم أحرارا ذوي حساب. امنعوا رحلي و أهلي من طغامكم و جهالكم). [4] .

لقد أحزنه أن يحيطوا به، و هو حيد بينهم، جاء لانقاذهم، و جاءوا لقتله، انه سيواجه ربه الودود الرحيم و سيفد علي جده صلي الله عليه و آله و سلم و أبيه عليه السلام، و ستنتهي مسيرته بالفوز العظيم، أما هم فما عساهم أن يلاقوا بعده هنا مع مذلهم و جلادهم، و هناك في الدار الآخرة؟

لم تبدر منه بادرة استسلام أو تخاذل أو تهاون في كل مراحل المعركة، و منذ بداية المسيرة الملحمية من المدينة الي العراق، و حتي آخر لحظة.

(كان يقاتل علي رجليه قتال الفارس الشجاع، يتقي الرمية و يفترص العورة، و يشد علي الخيل (فشد عليه رجاله ممن عن يمينه و شماله فحمل علي من عن يمينه حتي انذعروا؟ و علي من علي شماله حتي انذعروا؟؟، و علي قميص له من خز و هو معتم.

فو الله ما رأيت مكسورا قط قد قتل ولده و أهل بيته و أصحابه أربط جأشا، و لا أمضي جنانا و لا أجرأ مقدما منه، و الله ما رأيت قبله و لا بعده مثله، ان كانت الرجالة لتنكشف من عن يمينه و شماله انكشاف المعزي اذا شد فيها الذئب). [5] .

و كانت كلماته الأخيرة لهم اشعارا لهم بالمصير المحزن الذي سوف ينتهون اليه بعد أن ارتضوا الهوان، و قد رأي انهم ماداموا قد وصلوا الي هذا الحد الذي يستسهلون فيه قتل أمامهم و ابن نبيهم صلي الله عليه و آله و سلم و سيد شباب أهل الجنة، و هم يعرفونه حق


المعرفة، و يسيرون خلف عدوه و عدوهم الذي أمات السنة، و أحيا البدعة، و حكم بالجور و الظلم، فان مصيرهم سيكون أسودا، قاتم السواد و سيكون مليئا بالحروب و الخصومات و الهوان و الخذلان و العذاب الأليم في نهاية المطاف.

(أعلي قتلي تحاثون أما و الله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله، الله أسخط عليكم لقتله مني، و أيم الله اني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون، أما و الله ان لو قد قتلتموني لقد ألقي الله بأسكم بينكم، وسفك دمائكم ثم لا يرضي لكم حتي يضاعف لكم العذاب الأليم). [6] .

لقد انتصرت ارادة التغيير و الايمان في النهاية، و سجل مقابل الموقف الكبير [للحسين و أصحابه عليه السلام]، موقف التراجع و الاستسلام و التخاذل المخزي علي من دعوه لينصروه و ينصروا الاسلام ثم قتلوه، و كان تراجعهم و قعودهم عن نصرة الحسين عليه السلام و خذلانه و قتله بعد ذلك، دافعا لصحوة دائمة من قبل الآلاف من أبناء الأمة علي مر العصور لاكمال المشوار الذي بدأة الامام عليه السلام، و ان اقتضي الأمر تضحيات كبيرة كتضحيته عليه السلام و أصحابه.


پاورقي

[1] اثبات الوصية ص 139، و بلغة الحسين ص 190، و هکذا کان يهيب باصحابه مبشرا (صبرا يا بني الکرام، فما الموت الا قنطرة تعبر بکم عن البؤس و الضراء الي الجنان الواسعة و النعم الدائمة، فايکم يکره ان ينتقل من سجن الي قصر، و ما هو لأعدائکم الا کمن ينتقل من قصر الي سجن و عذاب).

[2] الطبري 319 / 3، و ابن‏الاثير 419 / 3.

[3] الطبري 243 / 6، و ابن‏الاثير 419 / 3.

[4] المصدر السابق 431 - 258.

[5] الطبري 334 / 3، و ابن‏الأثير 431 / 3.

[6] الطبري 334 / 3، و ابن‏کثير 190 / 8، و ابن‏الأثير 432 / 3.