بازگشت

تمهيد


تؤكد نصوص عديدة، و من بينها نصوص موثوقة و مسندة كما سنري ان الحسين عليه السلام، كان يري قتله محتما علي يد أعوان الطغمة الاموية، مادام يتصدي لهم و يقف بوجه طموحاتهم غير المشروعة، و يعلن رفضه لدولتهم المزيفة علي رؤوس الاشهاد دون خوف أو تردد. [1] .

و يبدو هذا من الامور المتوقعة في دولة الظلم و الجور، اذ ان من الصعب عليها أن تمسع ولو همسا بشأن تصرف قادتها و انحرافهم، و تذهب الي حد رصد انفاس الناس و الاخذ بالظنة و الشبهة، أي انها تستأصل مصادر الخطر المحتملة، قبل ان تواجه ذلك الخطر بشكل حقيقي.

و في قضية كهذه، يلوح امامها الخطر واضحا، و من شخص ذي مكانة رفيعة، مؤهل لأن يستقطب جماهير المسلمين الي صفه، يكون احتمال سقوطها واردا جدا. و هنا ينبغي لنا أن لا نعتقد انها ستتقدم بغصن الزيتون لمن أراد الاطاحة بها، كما ينبغي ان نعتقد ان الامام الحسين عليه السلام لم يكن يعتقد ذلك ايضا.

كم من العناصر الطفيلية التفت حول هذه الدولة و ربطت مصيرها بمصيرها، فأثرت و أترفت و تنفذت.

ان الملاحظ هنا ان أبعد الناس عن الأسلام، اصبحوا هم المسيطرين علي مقدرات الامة الاسلامية، و كان الترف و الثراء الاسطوري الذي لم يحلم أباؤهم بمثله، و النعيم الذي و جدوا أنفسهم فيه فجأة، أحد دواعي بطرهم و غرورهم


و ابتعادهم عن الاسلام بشكل واضح و قد تكلمنا عن مجتمع الترف في ظل الدولة الأموية الذي أعاد الي الاذهان مجتمعات الترف السابقة، التي كانت هي نفسها مجتمعات الكفر و الطغيان و التسلط و الاستغلال.

و بحسبنا ان نذكر هنا ان حجم هذه الطبقة المترفة اصبح محسموسا، و ذي ثقل و تأثير واضحين جعلته يسيطر بشكل كامل علي المجتمع الاسلام، بحيث بدا ان الخلاص منها لن يتم الا بمعجزة أو بثورة شبيهة بثورة الاسلام الاولي، التي فجرت بوجه الجاهلية و الالحاد و الاستغلال علي يد رسول الاسلام صلي الله عليه و آله و سلم، فهل كان احد يحسب ان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لم يأخذ بنظر الاعتبار المخاطر العديدة التي كان يمكن ان يتعرض لها و هو يواجه عتاة قريش و مشركيها و مترفيها؟

و هل لم يكن احتمال الموت و الاذي واردا أمامه في اي لحظة؟

و هل لم يتعرض لذلك عدة مرات فعلا؟ فما الذي دفعه للاستمرار في مهمته الصعبة رغم المخاطر المحققة التي كان يمكن ان تنزل به و منها خطر الموت؟

لا شك أن اليقين بالرسالة التي اؤتمن عليها و هي الاسلام، هو الذي دعاه لذلك، و الا فما الذي دفع رجالا من صحابته للاقدام علي الموت بتلك البسالة الفريدة، ان لم يكن ايمانهم بها ايضا؟

و هل اذا قلت الحالات التي يقوم بها أحد كما قام به أولئك في ظل الاجواء التي أوجدها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و لم يقيض لها ان تستمر بتلك الكثافة و ذلك الزخم، حكمنا عليها بانها حالات شاذة و ان اصحابها أبعد ما يكونون عن الواقعية و التعقل، في ظل أوضاع أصبحت فيه الحياة أعز شي ء، و التنعم فيها هدفا مطلقا؟ و في ظل أوضاع أصبح فيها يزيد بديلا عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و اصحابه بديلين عن صحابته، و اصبح هدف الدولة و هاجسها الكبير هو تسليط الاضواء علي قائدها و التركيز عليه كمتصرف وحيد مطلق بمملكته، و يمتلك ذلك بموجب تخويل الهي ادعته تلك الدولة له، و هكذا فلم يكن ممكنا الاعتراض علي كل ما كان يفعله، أو رفع الانظار اليه، و اصبحت تلك حالة ممنوعة في عهد من جاء بعده من (الخلفاء) الامويين. [2] .


و أصبح كل هم الحاشية و الاتباع ان يزينوا (الخليفة) عمله، كما كان اعوان فرعون يزينون لفرعون عمله.

و اذا لم يعلن معاوية ذلك صراحة [3] فانه كان يتم بشكل عملي، و كأن (الخليفة) غير مسؤول أو محاسب امام أية قوة اخري، حتي ولو كان هو الله عزوجل، كما رأينا عند شهادة حوالي أربعين (فقيها) و واعظا امام يزيد بن عبدالملك بان الخليفة غير محاسب امام الله.

هل لم تلفت حالات الانحراف الرهيبة التي حدثت أيام معاوية، و التي كانت تمهد لخروج معلن عن الاسلام نظر الامام الحسين عليه السلام حقا؟

و هل لم ينظر الي القائمين بها عن عمد و تخطيط و اصرار نظرته الي اعداء الاسلام من المشركين و الكفار الاخرين؟

و هل كان غير مسؤول عن تقويم الانحراف المتسارع المتزايد و الذي كاد ان يودي بالأمة كلها و يقضي علي كل ما حققته من مكاسب في ظل الاسلام؟

و هل ان التغيير يتم بمجرد رغبة أو اشارة منه فيستجيب (الخليفة) المنحرف، و يسارع بالعودة الي الاسلوب الصحيح و المنهج الصحيح؟

و هل كانت الامة علي استعداد للاستجابة بسهولة، و الالتفات حوله لانجاز مهمته الكبيرة للتصدي بحزم ليزيد و اعوانه و حاشيته؟

فلو انه قعد و لم يواجه يزيد لقال الآخرون من المتكاسلين و الخائفين و المساومين: ما بالنا نحن نقوم بالامر و نواجه يزيد، و هذا الحسين عليه السلام امام الامة و قائدها و سبط رسولها صلي الله عليه و آله و سلم، قد تخلي عن كل شي ء و قبل بيزيد خليفة علي المسلمين.

يجب ان ندرك ان الحسين عليه السلام قد حمل ما لم يحمله احد من المسلمين. انه امام مواجهة صعبة، و امام خيار صعب، و اصعب ما فيه الاستجابة ليزيد و مبايعته و الاقرار بصحة حكمة و خلافته.

و الا فما الذي يمكن ان يفعله، غير ان يقوم باعلان رفض البيعة و الاستجابة لمن دعوه للثورة، و قد رأي انه ملزم امام الامة بالاستجابة لهم، كما عبر هو عن ذلك بوضوح.


و هنا: نعود الي سؤالنا: هل كان الحسين عليه السلام يري ان مثل هذه المهمة يمكن انجازها بسهولة، و ان الطريق من مكة الي الكوفة سيكون مفروشا بالورود؟ أم ان الدولة و هي تري كل (انجازاتها و مكاسبها) عرضة للانهيار، بل ان حياة قادتها ستكون معرضة للتلف و الموت امام ثورة محتملة كبري ستزج بكل امكاناتها للقضاء علي هذه الثورة و محاصرتها و استئصال قائدها؟ حتي ولو كان هو الحسين عليه السلام سبط رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، بل حتي لو كان هو رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لو انه كان موجودا و تصدي لدولتهم.

و هذا ما بدا بوضوع للامام الحسين عليه السلام.

ان الدولة لن تتنازل بسهولة امامه، و ستواجهه بعنف و بأشد الاساليب دموية و بطشا، و سيكون هو أول المستهدفين و في رأس قائمة المطلوبين للقتل.

اني لم أخرج أشرا و لا بطرا.

لقد كان الانحراف، بل السقوط متوقعا في ظل الأوضاع التي تتخلي فيها الأمة عن وجودها كأمة اسلامية، عليها أن تتمسك بكل ما أنزل عليها و أريد منها، لا ببعض الاشكال الطقوسية، الظاهرية المجردة و حسب، كالصلاة و الصيام و الحج التي يؤديها الجميع، مادام الشكل الادائي الظاهري لا يضر الحاكم و طبقته المترفة، التي قد تكون أحيانا في مقدمة المشاركين و خصوصا في المناسبات العامة، فذلك من شأنه أن يحسن صورتها بنظر الجماهير.

ان هذا الشكل الظاهري هو الذي أريد له أن يبقي (مع تجريده من محتواه الأساسي)، و قد رفض كل ما من شأنه تصحيح الانحراف مثل فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هي فريضة أساسية، أكد الاسلام علي أن تركها سيكون بداية النهاية لهذه الأمة، و قد أريد لها أن تتناول الأمور الجوهرية الأساسية لا الشكلية و حسب، غير أن الذي حدث بعد ذلك كان عكس ذلك تماما.

كان أداء هذه الفريضة الأساسية في صدر الاسلام، و عند حكم الرسول صلي الله عليه و آله و سلم يسيرا في وجوده و تحت غمرة الاحساس الجديد بالاسلام و روعته، عندما طبق بذلك الأداء العظيم من قبله صلي الله عليه و آله و سلم.

و اذا تركت بعض جوانبه التي حسبت هينة في بداية الأمر، فان جوانب أكثر خطورة قد برزت و تتابعت. و فاقم الأمر برمته أن الانحراف كان يبدأ من القيادة مادام


يحقق طموحاتها و خططها و لا يتعارض معها. و بدا الأمر كأنه كان متعمدا من قبلها رغم قيام من يتصدي ذلك و يحاول تصحيح الانحراف و الخطأ لقد ادي ذلك الي كارثة محققة تمثلت باستلام معاوية الحكم كحق شخصي تم نتيجة نضاله و سعيه و مهارته و حسب، و لذلك فانه كان يحاول اشعار الجميع بان عليهم ان لا يقفوا حجر عثرة في سبيل تمتعه بنتائج سعيه و نضاله.!

لقد فسر المنكر في احدي آيات القرآن الكريم بانه اتباع خطوات الشيطان و قرن مع الفحشاء [4] ، اذ ان من شأن الشيطان ان يأمر بهما.

و حتي الأعمال العبادية لم تكن مجرد أداءات طقوسية، و نأخذ الصلاة علي سبيل المثال، فهذه فريضة قرنت مع الزكاة و الانفاق تارة، و قرنت مع الامر بالمعروف و النهي عن المنكر تارة اخري، حتي ليكاد يكون ذلك امرا مكملا لها، و من هنا حرص الاسلام علي استكمال مقومات الصلاة و اعطائها حقها بما يضمن أداءها و قبولها بعد ذلك من قبل الله العلي القدير، كما ان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر قرن مع الايمان بالله، و اذ انها اهملت، و اراد من اهملها جعلها تقتصر علي محاربة العدو الخارجي أو الدفاع عن الحدود و الثغور فحسب، فما نحسب ان ذلك كان لعدم حاجة المسلمين اليها لتقويم انفسهم، أو انها قد نسخت بفريضة اخري مماثلة، بل لأن ذلك كان بسعي دؤوب متعمد استدرجت اليه الامة، لتسكت عن الاخطاء الكبيرة التي كانت تصدر غالبا من رئيس الدولة و اعوانه.

(تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله). [5] .

(يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و يقيمون الصلوة). [6] .

(أقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر). [7] .

(ان الصلوة تنهي عن الفحشآء و المنكر). [8] .


فكما ان الشيطان يأمر بالفحشاء و المنكر، فان الصلاة، و لعلها هنا التوجه الخالص لله بالعبادة و استكمال كل شروطها، تنهي عنهما، باعتبارها امرا من الله، و هل من خيار هنا للانسان بين الله و الشيطان؟ انه لابد ان يستجيب لخالقه المنعم عليه، و الذي بيده امره و اليه مآله و عنده حسابه.

لقد اهملت هذه الفريضة الرئيسية من فرائض الاسلام، و عزلت عن الفرائض الاخري، مادامت لم تلائم مزاج و ذوق الطبقة الحاكمة، و لم تر ان تأخذ بها في غياب الاسلام، بل انها اوجدت مثلا و قيما جديدة تنسجم مع مصالحها جعلت من المعروف منكرا، و من المنكر معروفا، أي انها عبثت بالمفاهيم الاساسية و جعلت ما كان يبدو مقبولا و سائغا في ظل التصور و الفهم الصحيح للاسلام غير مقبول و غير مفهوم و غير سائغ، لانه لا ينسجم مع الحياة التي أوجدها الجاهليون الجدد، كما جعلت ما انكره الاسلام و رفضه و نبذه امرا مقبولا و سائغا، مادامت القيم السائدة لا تتعارض معه، و مادام من تسلط علي الناس رأي انها كفيلة بتثبيت عرشه و مصالحه.

لقد كان ذلك امرا لا يمكن تصوره في عهد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، غير أنه صلي الله عليه و آله و سلم أدرك ان أي ابتعاد عن مفاهيم الاسلام الصحيحة سيجعل الناس بتخبطون في وهدة العمي و الجهل، و سيكون ذلك مدعاة للمزيد من العبد عن خط الاسلام و منهجه و مبادئه و تشريعاته.

قال صلي الله عليه و آله و سلم لجماعة من أصحابه مرة:

(كيف بكم اذا فسد نساؤكم و فسق شبابكم و لم تأمروا بالمعروف و تنهوا عن المنكر؟ قيل له: و يكون ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم، و شر من ذلك، و كيف بكم اذا أمرتم بالمنكر و نهيتم عن المعروف؟ قيل: يا رسول الله و يكون ذلك؟ قال: نعم و شر من ذلك. و كيف بكم اذا رأيتم المعروف منكرا و المنكر معروفا؟). [9] .

و اذ لم يفهم أولئك الصحابة قصد الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، اذ كيف سيرون المعروف منكرا و المنكر معروفا، فربما فهمه من عاش منهم الي أن رأي أن ذلك قد وضع فعلا.

رأوا المعروف منكرا و المنكر معروفا، عندما رأي ذلك امراؤهم و كبراؤهم و ملوكهم، الذين اتخذوا الههم هواهم و مصالحهم و امتيازاتهم.


لم يطل العهد بهم، و رأوا ذلك بوضوح مع طلعة معاوية خليفة علي الامة، و مع يزيد و مروان و عبد الملك و أولاده و أشباههم، و مع بروز كل حكم معاد مكرور يشبه الحكم الاموي المنحرف، الذي قلب كل مفاهيم الاسلام و قيمه، و جاء بقيم جاهلية لا تري أمامها الا امر فرعون و ملك فرعون و هوي فرعون.

لقد كان الترف مقترنا مع الكفر و الظلم و التصدي للانبياء و اديانهم السماوية، و يبدأ الانحراف مجددا مع الترف و المترفين، مع الاثرياء و المرابين الذين يتسلقون الي القمة علي اشلاء الفقراء و الجياع، يدعي كل مترف جديد انه ذو فضل علي الاسلام، أو ان اباءه قدموا خدمات جلي له، و من حقه ان يتمتع بامتيازات نالها بجهده و عرقه و نصرته، مع انه غير جدير ان يحسب حقا في صف أولئك الذين نصروا الاسلام و آزروا الرسول صلي الله عليه و آله و سلم.

كان التمييز البسيط في العطاء اولا، ثم المتسع بعد ذلك الي أبعد حد في عهد عثمان، ثم غير المقيد بقانون أو ضابط في عهد معاوية، هو الذي أوجد طبقات جديدة أكثر ثراء و ترفا، طبقات تضامنت و تكاتفت و رصت صفوفها حتي لا تفقد مكاسبها، و أعلنت انها لن تتخلي عن امتيازاتها الا علي رؤوس الحراب و بحد السيوف، تري لنفسها و لآبائها فضلا علي الاسلام و المسلمين، و لا تتحرج من الذهاب الي ابعد حد في لهوها و استهتارها و عبثها و ابتزازها اموال الناس و جهودهم و عرقهم.

و هكذا خاطب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أميرالمؤمنين عليه السلام قائلا:

(يا علي، ان القرم سيفتنون بأموالهم، و يمنون بدينهم علي ربهم، و يتمنون رحمته، و يأمنون سطوته، و يستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة، و الاهواء الساهية، فيستحلون الخمر بالنبيذ، و السحت بالهدية و الربا بالبيع). [10] .

لم يقل هؤلاء أننا نريد دينا جديدا غير الاسلام، فلم تكن لهم طاقة بذلك، و لم تكن الأمة لتشايعهم علي هذا الامر، غير انهم زوروا و تلاعبوا و اولوا و افتروا، فحققوا اغراضهم و جاءوا بدين جديد و منهج جديد للحياة لا يحمل من الاسلام الا اسمه.

و الا فهل كان الامر في عهد معاوية و (خلفاء) بني أمية غير ذلك؟


و تتكرر اشارات أميرالمؤمنين عليه السلام بعد ذلك الي مجتمعات الظلم و الانحراف، و يبين أسباب ابتعادها عن الاسلام:

(لا يقتصون أثر نبي، و لا يقتدون بعمل وصي، و لا يؤمنون بغيب، و لا يعفون عن عيب، يعملون في الشبهات، و يسيرون في الشهوات، و المعروف فيهم ما عرفوا، و المنكر عندهم ما انكروا، مفزعهم في المعضلات الي انفسهم، و تعويلهم في المهمات علي آرائهم، كأن كل امري ء منهم امام نفسه، قد أخذ منها فيما يري بعري ثقات، و اسباب محكمات). [11] .

ثم يصف نتائج ذلك، اذا ما ابتعدت الامة عن رسالتها و عن قيادتها الحقيقية المؤهلة للاخذ بيدها الي بر الامان، كما كان الحال معه عليه السلام اذ اخذ العديدون ينحازون الي معاوية و يراسلونه سرا و يعدونه بان يكونوا معه في نهاية المطاف، انه يري بعين البصيرة دولة الظلم متمثلة بدولة معاوية الاموية، و ما تقوم به ضد الأمة المسلمة:

(و الله لا يزالون حتي لا يدعوا لله محرما الا استحلوه، و لا عقدا الا حلوه، و حتي لا يبقي بيت قدر و لا وبر الا دخله ظلمهم و نبا به سوء رعيهم، و حتي يقوم الباكيان يبكيان، باك يبكي لدينه، و باك يبكي لدنياه، و حتي تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده، اذا شهد اطاعه، و اذا غاب اغتابه، و حتي يكون اعظمكم فيها عناء احسنكم بالله ظنا، فان أتاكم الله بعافية فاقبلوا، و ان ابتليتم فاصبروا، فان العاقبة للمتقين). [12] .

ان ممارسات دولة الظلم غير المشروعة لابد ان تجد بيئتها الطبيعية في المجتمع البعيد عن الاسلام، لكي تكون بمنأي عن رقابته و قوانينه و مقاييسه، و لكي تحكم قوانينها و مقاييسها هي، و تتصرف بهواها و ما تتطلبه مصالحها.


انك لا تري مجتمعا اسلاميا رباه محمد بن عبدالله صلي الله عليه و آله و سلم، و علي بن ابي طالب عليه السلام، بل مجتمعا تخلي عن مثله و قيمه، و عاد يعيش في ظل جاهليات قديمة، لبست ثوبا حديثا (متطورا)، و مزودا بكل تجارب و خبرات تلك الجاهليات، فكأنه خلاصة لها جميعا، و كأنه تركيبة غريبة ضمتها كلها، ان الانحدار المستمر عن قمة الاسلام لابد ان يتسارع، و لابد ان تكون نتيجته السقوط النهائي في احضان فرعون جديد، يملي علي الامة رغباته.

ان البديل عن الاسلام لابد ان يكون هوي السلطان و كلمته و رغبته و نزوته، و اذا ما استبعد الاسلام أو لبس بالمقلوب علي حد تعبير الامام عليه السلام حلت الجاهلية بانجاسها و مدلهمات خطوبها. [13] .

و ليس أمرا عسيرا ان يري أميرالمؤمنين عليه السلام مجتمعا جاهليا لم يعش حياته هو فينظر اليه بعين الاسلام التي لا تستريح اليه و تكشفه بوضوح لا يستطيعه أحد عاش تلك الحياة و تمرغ فيها، و التبس عليه باطلها، كما التبس عليه حق الاسلام،

(فعند ذلك أخذ الباطل مأخذه، و ركب الجهل مراكبه، و عظمت الطاغية، و قلت الداعية و صال الدهر صيال السبع العقور، و هدر فنيق الباطل بعد كظوم، و تواخي الناس علي الفجور، و تهاجروا علي الدين، و تحابوا علي الكذب و تباغضوا علي الصدق، فاذا كان ذلك كان الولد غيضا، و المطر قيظا، و تفيض اللئام فيضا، و تغيض الكرام غيضا، و كان أهل ذلك الزمان ذئابا، و سلاطينه سباعا، و اوساطه أكالا، و فقراؤه أمواتا، و غار الصدق، و فاضل الكذب، و استعملت المودة باللسان،


و تشاجر الناس بالقلوب، و صار الفسوق نسبا، و العفاف عجبا، و لبس الاسلام لبس الفرو مقلوبا). [14] .

انك تلمح حالة مأساوية، تلمحها، بل و تعيشها، و تعيش نتائجها، هل هذا هو الاسلام حقا؟ و هي هذه هي نتيجة سعي و جهاد مائة و اربعة و عشرين الف نبي، استشهدوا و اوذوا و خوفوا و شردوا، هل هذا هو المجتمع الذي ارادوه؟

ان من لا يفهم السنن الربانية التي تحتم علي كل فرد القيام بواجبه، و كأن الاسلام انزل عليه هو، لا يستطيع ان يفهم لماذا أصبح أمثال معاوية و يزيد في مركز الصدارة، و لماذا او ذي علي و الحسن و الحسين عليه السلام كما لم يؤذ احد، و لماذا صار حال المسلمين الي الحال التي و صفهم بها أميرالمؤمنين عليه السلام.

هل تري أثرا لمجتمع اسلامي من خلال هذا الوصف؟ أم تري مجتمعا متمردا رفض الاسلام و لبسه بالمقلوب؟ فهل ولد الاسلام ليموت؟ و هل ولد ابناؤه ليقعوا فريسة بيد معاوية و يزيد، و من سيأتي بعدهم من حكام الجور و الانحراف و الظلم؟

ان الحل الوحيد للخروج من ذلك، هو العودة للاسلام، و ليس الخروج من جاهلية و الوقوع في جاهلية اخري، أو التخلص من نير ظالم للوقوع في براثن ظالم آخر، لان السبب الوحيد للانحدار هو الابتعاد عن الاسلام، و الحل الوحيد هو العودة الية، و التمسك بكتابه وقادته الحقيقيين.

و قد أشار الرسول الكريم الي ذلك اشارة صريحة في خطبة الوداع، و رأي انه الضمانة الوحيدة لسلامة الامة من الضلالة و الشرك و الانحراف.

(فلا ترجعن كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فاني قد تركت فيكم ما ان اخذتم به لن تضلوا: كتاب الله و عترتي أهل بيتي). [15] .

و قد جعلهم مقياسا صادقا و ائمة اخيارا لابد من اتباعهم لكي تتجنب الامة الوقوع بيد اشرارها و طغاتها و عتاتها.


(و اذا لم يأمروا بالمعروف و لم ينهوا عن المنكر، و لم يتبعوا الاخيار من أهل بيتي، سلط عليهم اشرارهم، فيدعو عند ذلك خيارهم فلا يستحاب لهم). [16] .

من أصدق شاهدا من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، حينما شهد للاخيار من أهل بيته، و ضمن ان السير وراءهم هو وحده الكفيل بالوصول الي بر السلام و ساحل الامان.

فلماذا اعد عليا لهذه المهمة و لماذا احتضنه و رباه، ان لم يكن لغير هذه المسؤولية الكبيرة،

و لماذا اعد علي اولاده عليه السلام، و نزل فيهم ما نزل من آيات كريمات لاشعار الامة بان هؤلاء هم قادتها الحقيقيون، الذين يحصنون الامة و يضمنون ابتعادها عن الضلالة و الكفر و عدم الوقوع بيد الاشرار و الكفار ثانية!

فهل كانت شهادة القرآن بحقهم شهادة للتاريخ و حسب؟

و هل شهد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بحقهم منطلقا بدافع محبة غريزية لا غير؟

أم أنه كان ينطق عن الله؟

و من اولي من هؤلاء بتحمل المسؤوليته، و اعادة الامة الي خط الاسلام اذا انحرفت.

هل أولي بذلك احد غير علي في زمن علي عليه السلام؟

و في زمن الحسن غير الحسن عليه السلام؟

و في زمن الحسين غير الحسين عليه السلام؟

هل هناك بعد كل ما نزل فيهم و عرفناه عنهم (شك لشاك أو مرتاب)؟

و هل انهم اختصوا باناس معينين يتولونهم، ليقوم الاخرون بالابتعاد عنهم.

هل كانت رسالة محمد صلي الله عليه و آله و سلم الا لكل المسلمين؟

فلماذا هذا الاعراض من البعض؟ اذا كان معاوية و من جاء بعده لهم دوافعهم و غياتهم من ذلك؟ فما هي دوافع و غايات من لم يجن ما جناه معاوية و يزيد، و حصل عليه معاوية و يزيد؟


و هكذا رأينا تصدي أميرالمؤمنين عليه السلام لحمل اعباء المسؤولية الي الحد الذي انساه كل شي ء الا الله.

و رأينا تصدي الامام الحسن عليه السلام من بعده الي الحد الذي انساه نفسه و كل شهوة قد ينساق اليها سواه.

و رأينا تصدي الامام الحسين عليه السلام الي الحد الذي لم يعد يرأيه أهمية لسنوات قليلة باقية من حياته امام المهمة الضخمة التي كان عازما علي القيام بها، و هي دعوة الامة للتخلي عن دولة الظلم الاموية بقيادة يزيد، و العودة الي دولة الاسلام المحمدية بقيادته.

و كان قيام ائمة آل البيت عليهم السلام بمهمة الامر بالمعروف، و الدعوة الي الالتزام بالاسلام برمته نهجا حياتيا متكاملا، و عدم التخلي عن أي جانب منه، و النهي عن المنكر، الذي غالبا ما يزينه للناس أولوا المطامع و الاهواء و الاغراض الشخصية متبنين مهمة الشيطان، يبدو برنامجا حياتيا يوميا لهم لم يتخلوا عنه في أصعب الظروف و ادقها، و كان سعيهم لذلك يسير علي نفس الوتائر العالية التي شهدها عهد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و تكاد اقوالهم تطابق أقوال صاحب الرسالة صلي الله عليه و آله و سلم و تنهج نهجه، غير انهم و هم يعيشون بعض جوانب الحياة التي توقعها صلي الله عليه و آله و سلم، ارادوا ارجاع الأمة الي وعيها و انقاذها من السقوط النهائي، اذ ما مهمة الامام و هو يعيش بين ظهراني الامة، و يري انحرافها و تسلط اعداء الاسلام عليها؟ هل مهمته كمهمة أي فرد عادي من ابناء المجتمع الاسلامي، أم انها بمستوي الوعي و العلم و المكانة التي يتمتع بها؟ لا شك انها كذلك بمفهوم الاسلام، و حتي بالمفاهيم الاخري التي قد لا تتبني الاسلام.


پاورقي

[1] و قد وردت بعض الاشارات الي ذلک في أجوبته لمن (نصحوه) و حذروه من الخروج الي العراق کما رأينا في هذا الفصل.

[2] و وصل الأمر الي حد اعلان عبد الملک بن مروان بعد عدة سنوات ذلک صراحة: (... و الله لا يأمرني احد بتقوي الله بعد مقامي هذا ألا ضربت عنقه...)، و هو (أول من نهي عن الأمر بالمعروف) تاريخ الخلفاء السيوطي 204 - 203.

[3] مع أنه أشار عدد مرات أنه خليفة الله المتصرف بأمواله و عبادة کيف يشاء، کما اشرنا من قبل.

[4] في قوله تعالي: (و من يتبع خطوت الشيطن فانه يأمر بالفحشآء و المنکر) سورة النور.

[5] آل عمران 110.

[6] التوبة 71.

[7] الحج 41.

[8] العنکبوت 45.

[9] الحسن الحراني / تحف العقول عن آل الرسول، ص 35.

[10] نهج‏البلاغة دار الکتاب اللبناني ص 220.

[11] المصدر السابق، 121، انهم بکلمة واحدة يتخلون عن الاسلام عندما يفهموه خطأ، و کأنهم بذلک قد استبدلوه بدين آخر، و افرغوه من محتواه يکفأ کما يکفأ الاناء بما فيه، (سيأتي عليکم زمان، يکفأ فيه الاسلام کما يکفأ الاناء بما فيه...) نفس المصدر 150. انهم لن يترکوا الاناء بطبيعة الحال و سيمتلي‏ء بآراءهم و هواهم...، و عند ذان سيجنون هم نتيج عملهم.

[12] نفس المصدر 144 - 43.

[13] و قد أوضح أميرالمؤمنين عليه‏السلام نقطة دقيقة جديرة بالانتباه، بين فيها السبب الرئيسي للانحراف و الفتن، و هو الأهواء و الأحکام المبتدعة التي تتوافق و رغبات و مصالح الحکام الذين تسلقوا مراکز الصدارة، و جلعوا من الاسلام غطاء لانحرافهم و ظلمهم، عندما زيفوا العديد من احکامه و قوانينه (انما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، و أحکام تبتدع، يخالف فيها کتاب الله، و يتولي عليها رجالا علي غير دين الله، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق، لم يخف علي المرتادين، و لو ان الحق خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه السن المعاندين، ولکن يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث، فيمزجان؛ فهنا لک يستولي الشيطان علي أوليائه، و ينجو «الذين سبقت لهم من الله الحسني». نفس المصدر 88.

[14] نفس المصدر 159 / 158.

[15] تحت العقول ص 36 - 24.

[16] المصدر السابق.