بازگشت

البيئة التي عاش فيها الحسنان


و قد وردت روايات عديدة عن تلك الطفولة الحافلة التي نعم بها الحسنان عليه السلام في احضان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و حدبه و رعايته لهما، فقد كان صلي الله عليه و آله و سلم يفيض حبا ورقة و حنانا عندما يقبلان عليه أو يشم ريحهما، فمرة يقطع خطبته امام جمع المسلمين و ينزل عن منبره و يتلقاهما و يحملهما، و مرة يطيل سجوده ليتيح لهما فرصة أطول للبقاء علي ظهره الشريف، و تارة تفيض عيناه بالدموع عندما يري ببصيرته الثاقبة، و بما اعلمه به جبرائيل عن الله ما سيلقيان في سبيل دين الله، و هما اعز خلقه لديه، فتلك الحياة رغم انها حياة شظف و تقشف الا انها كانت مليئة بدف ء العاطفة العظيمة التي حملها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لهم.

فلم تكن حياة الترف هي التي الفاها أو عرفاها في يوم من الايام، و لعل المرء ليعجب كيف عاشا في ظروف التقشف التي عاشاها مع والدتهما و والدهما عليه السلام.

و روي الزمخشري في تفسير سورة الدهر في الكشاف عن ابن عباس:

(ان الحسن و الحسين عليه السلام مرضا فعادهما رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في ناس معه فقالوا: يا اباالحسن لو نذرت علي ولديك. فنذر علي و فاطمة و فضة و جارية لهما،


ان برئا مما بهما ان يصوموا ثلاثة ايام، فشفيا و ما معهم شي ء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة اصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعا، و اختبزت خمسة اقراص علي عددهم، فوضعوها بين ايديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، اطعموني اطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه و باتوا لم يذوقوا الا الماء و اصبحوا صياما، فلما امسوا وضعوا الطعام بين ايديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، و وقف عليهم اسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك، فلما اصبحوا اخذ علي بيد الحسن و الحسين و اقبلوا الي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فلما ابصرهم و هم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع. قال: ما اشد ما يسؤوني ما اري بكم، و قام فانطلق معهم، فرأي فاطمة في محرابها، قد التصق بطنها بظهرها و غارت عيناها، فساءه ذلك. فنزل جبرئيل عليه السلام و قال: خذها يا محمد. هناك الله في أهل بيتك، فأقرأه السورة. [1] .

و قال علي: (لقد تزوجت بفاطمة و ما لي فراش الا جلد كبش ننام عليه بالليل و نعلف عليه ناضحنا بالنهار و ما لي خادم غيرها).

و قال هارون بن عنترة عن ابيه:

دخلت علي علي بالخورنق و هو فصل شتاء و عليه خلق قطيفة و هو يرعد فيه، فقلت: يا أميرالمؤمنين، ان الله قد جعل لك و لأهلك في هذا المال نصيبك و انت تفعل هذا بنفسك؟ فقال: و الله ما ارزأكم شيئا و ما هي الا قطيفتي التي اخرجتها من المدينة.

و قال يحيي بن سلمة:

استعمل علي عمرو بن سلمة علي اصبهان فقدم و معه مال و زقاق فيها عسل و سمن فارسلت ام كلثوم بنت علي الي عمرو تطلب منه سمنا و عسلا، فأرسل اليها ظرف عسل و ظرف سمن، فلما كان الغد خرج علي و احضر المال و العسل و السمن ليقسم، فعد الزقاق فنقصت زقين فسأله عنهما فكتمه و قال: نحن نحضرهما. فعزم عليه الا ذكرهما فاخبره. فارسل الي ام كلثوم فأخذ الزقين منها فرآهما قد نقصا، فأمر


التجار بتقويم ما نقص منهما فكان ثلاثة دراهم فأرسل اليها فأخذها منها ثم قسم الجميع.

و قال سفيان:

ان عليا لم يبن آجرة علي آجرة، و لا لبنة علي لبنة، و لا قصبة علي قصبة، و ان كان ليؤتي بحبوبه من المدينة في جراب.

و قيل:

انه اخرج سيفا له الي السوق فباعه و قال: لو كان عندي اربعة دراهم ثمن ازار لم أبعه، و كان يختم علي الجراب الذي فيه دقيق الشعير الذي يأكل منه و يقول: لا احب ان يدخل بطني الا ما اعلم.

و قيل:

ان عليا رؤي و هو يحمل في ملحفته تمرا قد اشتراه بدرهم فقيل له: يا أميرالمؤمنين الا نحمله عنك؟ فقال: أبوالعيال احق بحمله.

و قال عمر بن عبدالعزيز:

ازهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب). [2] .

فهل كانت الحياة التي عاشها الحسنان في ظل أبيهما عليه السلام شبيهة بتلك الحياة المترفة التي نشأ عليها اكثر ابناء (الصحابة)...؟

و هل كانت تلك الحياة المتقشفة التي كانت تبدو فيها تلك العائلة و كأنها تعيش حياة أفقر الناس، سوي اعداد لافرادها منذ البداية ليشعروا بما شعر به عائلها الكريم تجاه المحرومين و المضطهدين و المستضعفين، و ليعلموا علي الأخذ بأيديهم نحو عدالة الاسلام و خلق الاسلام، و لكي يزيلوا كل حيف و ظلم عنهم في ظل ظروف صحية لا مكان فيها للظلم؟

لقد كان ذلك جانب من حياتهما، اقترن بجوانب اخري اهمها اعدادهما علي يديه و علي خطاه لترسم تلك الخطي الاولي التي قادت المسلمين منذ البداية و اشعرتهم انهم علي اختلاف الوانهم و مستوياتهم و اجناسهم امة لها كيانها العظيم الخاص.


فلا عجب ان يري فيهما المرء جدهما صلي الله عليه و آله و سلم و اباهما عليه السلام، و لا عجب اذا ما عرضا علي الاسلام ان نجد فيهما مثالا حيا له، يجسدانه في كل امورهما و تصرفاتهما.

فهل ثمة مجال للمقارنة بعد الشهادات الواضحة للرسول الكريم صلي الله عليه و آله و سلم و القرآن بأنهما مبرءان من الرجس و العيوب و انهما سيدا شباب أهل الجنة، بمن لا نستطيع ان نقارنه حتي بادني المسلمين فهما و التزما بالاسلام، فكيف قال معاوية بعد ذلك: (انه لم يبق الا ابني و ابناؤهم، فأبني احب الي من ابنائهم، و كأن المسألة هنا مفاضلة بين ابناء متساوين في الكفاءات و الامكانات..، و كأن القرآن الكريم و رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قد شهدا ليزيد بما شهدا به للحسين، ثم يأتي معاوية (فيجتهد) (ليري) ان يزيد اولي من الحسين بالخلافة، و انه الوحيد الكفيل بتحقيق مصالح الامة و وحدتها، و يأتي بعده موظفو الدولة من الفقهاء، و (العلماء) و (الصحابة) ليفتوا بجواز امامة المفضول، و عدم جواز الخروج علي الامام الفاسق، و عدم فسخ البيعة لأي سبب من الاسباب، و جواز انعقادها بشخص واحد. لتظل ترددها بعدهم دون وعي اجيال من (الخلف) التي رأت في (السلف) لمجرد انه سلف قمة في كل شي ء و لم يكلفوا انفسهم عناء البحث و الدراسة و النظر، و لم يدركوا الظروف التي جاء بها معاوية نفسه الي الحكم، بعد ان مهد لقتل عثمان، ليجعلها هرقلية كلما مات هرقل جاء هرقل علي حد تعبير عبدالرحمن بن أبي بكر.


پاورقي

[1] الفصول المهمة، الامام عبدالحسين شرف الدين الموسوي، ط 5 مکتبة الداوري، قم ص 231.

[2] ابن‏الاثير 265 / 263 / 3.