بازگشت

شخصية الخليفة الاسلامي بين الكلمات الذاتية و الاعداد الالهي


و قد عصم الله رسوله صلي الله عليه و آله و سلم منذ بداية حياته من الجاهلية و ارجاسها و افعالها و ممارساتها، و كان يبدو منذ مطلع حياته معدا لحمل هذه الرسالة الاسلامية العظيمة، و تجسيدها كيانا حيا متحركا فاعلا مؤثرا، فقد كان منقطعا عن تلك الحياة تمام الانقطاع، و كانت صفاته الشخصية التي جعلته محل ثقة و اطمئنان المجتمع الجاهلي نفسه في مكة، مدخلا أهله للتأثير في هؤلاء الذين لم يروا منه ما كانوا يرونه من بعضهم، كان معدا بفعل الهي و حاملا لصفات جديدة تؤهله لحمل و نقل هذه الرسالة العظيمة، و كانت تلك العصمة قبل نبوته و بعدها العامل الاول لنجاح قيادته نجاحا باهرا لم يختلف عليه اثنان، غير ان امد وجوده علي هذه الارض محدود جدا كبقية بني البشر، مع ان استمرار نفس نمط القيادة كان الضمانة الوحيدة لترسيخ الاسلام و نشره بصورة سليمة و استكمال تربية اجيال من الامة علي نفس النمط الذي رباها به صلي الله عليه و آله و سلم، و لذلك كان اعداده لمن سيكون من بعده قائدا للامة و اماما لها منذ طفولته، و هو الامام علي عليه السلام، يمهد لامتداد قيادة علي نفس الفهم و التصورات التي حملها صلي الله عليه و آله و سلم.

لم يرد الله سبحانه و تعالي لأية بذرة أو شائبة أو تصور جاهلي ان يلوح علي تصرفات رسوله صلي الله عليه و آله و سلم، لذلك فقد عصمه منذ البداية، منذ طفولته، عن الحياة الجاهلية. اذ ان للاسلام تصورا متفردا يحتاج الي عقلية تتسع له وحده و تحمله وحده.

(... و لقد قرن الله به صلي الله عليه و آله و سلم، من لدن ان كان فطيما اعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن اخلاق العالم ليله و نهاره) [1] .

و هكذا اعد الرسول صلي الله عليه و آله و سلم خلفاءه عليه السلام، ابتداء من أميرالمؤمنين عليه السلام منذ البداية ليحملوا نفس تصوره و فهمه و عقليته الاسلامية التي لم تحمل مع الاسلام دينا


آخر او تصورا آخر من تصورات الجاهلية و افكارها و قيمها و مفاهيمها، و هكذا صرح أميرالمؤمنين بوضوح عارضا هذه النقطة الدقيقة و مبينا بوضوح: ان علي من يتولي مسؤولية القيادة ان يحمل نفس التصور، و ان لا تكون في تصوراته و لو نسبة ضئيلة من تلك التصورات و الممارسات الجاهلية الاولي، و ان يستسلم بشكل مطلق لاحكام الاسلام، لبيان القرآن و سنة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و حسب، و ان لا يخرج عليها بأي شكل من الاشكال تحت أي مبرر أو ذريعة (متأولا أو مجتهدا):

(و قد علمتم موضعي من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بالقرابة القريبة و المنزلة الخصيصية، و ضعني في حجره و انا ولد، يضمني الي صدره، و يكنفني الي فراشه، و يمسني جسده و يشمني عرفه، و كان يمضع الشي ء ثم يلقمنيه، و ما وجد لي كذبة في قول و لا خطلة في فعل، و لقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر امه، يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علما، و يأمرني بالاقتداء به، و لقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فاراه و لا يراه غيري، و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و خديجة و انا ثالثهما، اري نور الوحي و الرسالة و اشم ريح النبوة، و لقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلي الله عليه و آله و سلم، فقلت يا رسول الله، ما هذه الرنة، فقال هذا الشيطان آيس من عبادته. انك تسمع ما اسمع و تري ما اري، الا انك لست بنبي، و لكنك وزير، و انك لعلي خير) [2] .

لم يكن ذلك الاعداد الالهي المباشر للرسول صلي الله عليه و آله و سلم عبثا، و لم يكن غير مهم و لا حاجة اليه، فقد كانت مهمة القيادة الاسلامية، تلك المهمة الضخمة بل الهائلة، تقتضي ان لا يكون هناك أي اتصال مسبق مع الافعال و التصورات الجاهلية، و لو من بعيد، لئلا تلتبس و تتشابك مع التصورات و الأفعال الاسلامية الجديدة، و التي لم يسبق ان عرفت في مجتمع الجاهلية، و لم يقم الرسول صلي الله عليه و آله و سلم بعد ذلك باعداد خليفته الذي اعد بدوره خلفاءه عليه السلام علي نفس النمط الذي اعده عليه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، الا لتظل القيادة بمنأي عن كل فعل أو تصور جاهلي، و لا تري امامها غير نموذج واحد و طريق واحد جدير بالاتباع، هو نموذج و طريق رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم الممثل الحقيقي للاسلام.

(و ليس صنع مجتمع التوحيد بالامر الهين، لانه ثورة علي الجاهلية بكل


جذورها و تطهير للمحتوي النفسي و الفكري للمجتمع من جذور الاستغلال و مشاعر و دوافعه، و من هنا كان شوط الثورة اطول عادة من العمر الاعتيادي للرسول القائد، و كان لابد للرسول ان يترك الثورة في وسط الطريق ليلتحق بالرفيق الاعلي و هي في خضم امواج المعركة بين الحق و الباطل، (و ما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفاين مات أو قتل انقلبتم علي أعقبكم و من ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا) [آل عمران: 144 ].

و من الواضح ان الحفاظ علي الثورة و هي بعد لم تحقق بصورة نهائية مجتمع التوحيد يفرض ان يمتد دور النبي في قائد رباني يمارس خلافة الله علي الارض و تربية الجماعة و اعدادها و يكون شهيدا في نفس الوقت، و هذا القائد الرباني هو الامام، و يجب ان يكون معصوما لانه يستقطب الخطين معا و يمارس وفقا لظروف الثورة خط الخلافة الي جانب خط الشهادة معا، و عصمة الامام تعني ان يكون قد استوعب الرسالة التي جاء بها الرسول القائد استيعابا كاملا بكل وجوده و فكره و مشاعره و سلوكه، و لم يعش لحظة شيئا من رواسب الجاهلية و قيمها (لم تنجسه الجاهلية بأنجاسها و لم تلبسه من مدلهمات ثيابها) [3] ، لكي يكون قادرا علي الجمع بين الخطين في دور واحد يمارس فيه عملية التغيير دون ان يتغير، و مواصلة الاشعاع النبوي دون ان يخفت و اتخاذ القرارات النابعة بكامل حجمها من الرسالة التي يحملها دون ادني تأثر بالوضع الجاهلي الذي يقاومه، فالامام كالنبي شهيد و خليفة لله في الارض من اجل ان يواصل الحفاظ علي الثورة و تحقيق اهدافها، غير ان جزءا من دور الرسول يكون قد اكتمل و هر اعطاء الرسالة و التبشير بها و البدء بالثورة الاجتماعية علي اساسها فالوصي ليس صاحب رسالة، و لا يأتي بدين جديد، بل هو المؤتمن علي الرسالة و الثورة التي جاء بها الرسول [4] أما لماذا أعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عليا، و اختاره علي من سواه، لماذا اختص أهل البيت بالخلاص و التطهير من الرجس، فهذا امر لا نملك ان نتساءل فيه كما لا يمكن ان نتساءل: لماذا اختص الله سبحانه و تعالي بالرسالة محمدا صلي الله عليه و آله و سلم دون سواه و لم يختر غيره؟ فلا شك ان لك كله تم بتسديد الهي كما


اكدت لنا الاخبار و الاحاديث الواردة عن الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، و اكدت لنا هذه الاخبار و النصوص الصحيحة علي ان ذلك قد حصل فعلا، كما اكدت لنا الاحداث ان من اعد لهذا المنصب القيادي الخطير كان مؤهلا له فعلا، و معدا له اعدادا خاصا من قبل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم الذي احتضنه و رباه منذ وقت مبكر جدا من حياته، و ذلك لم يتح لبقية الصحابة الذين امضوا فترة طويلة من حياتهم يعيشون في خضم الحياة الجاهلية و يحملون قيمها و مثلها و تصوراتها، ثم عندما أنعم الله عليهم بالاسلام لم يستطيعوا ان ينتزعوا انفسهم نهائيا من كل تلك القيم و التصورات، بل بقيت بعضها و قد طفت علي السطح فيما بعد.


پاورقي

[1] نهج‏البلاغة 437.

[2] نهج‏البلاغة ص 437 / 436.

[3] زيارة وارث.

[4] خلافة الانسان و شهادة الانبياء، محمد باقر الصدر، دار التعارف، بيروت ط 1399 1 ه، ص 45 / 43.