بازگشت

مناقشة أفكار محمد قطب


و هكذا.. (كانت الانحرافات الاموية اصولا مرعية لمن جاء بعدهم من الحكام، و الخطورة فيها انها اصبحت سوابق تؤخذ كأنها اصول مرعية في سياسة الحكم؛ يجي ء كل حاكم - الا من رحم الله - فيسير علي نهج سلفه، مبررا لنفسه الامر بانه هكذا فعل اسلافه حين آلت اليهم السلطة فلا حرج عليه ان يفعل كما فعلوا، بل لا حرج عليه ان يزيد؛ لذلك قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: «و من سن في الاسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب عليه وزر من عمل بها و لا ينقص من اوزارهم شيئا»). [1] .

و هذا كلام واقعي جميل نسمعه من كاتب اسلامي مرموق، يتداول كتبه آلاف القراء كل عام، غير اننا نتساءل عن سبب هذه الرخاوة التي تبدو في ثنايا العديد من سطور كتابه عن كتابة التاريخ الاسلامي، فهو يضع يده علي اكبر الانحرافات التي وقعت في تاريخ الاسلام، لكنه يعود فيطلب من قرائه التساهل و عدم شجبها و رفضها


و مناقشتها بشكل يظهر حقيقتها و حقيقة القائمين بها، و كأن الامر الذي يبحث هنا هو مسألة فلسفية أو ادبية بحتة تتعلق بترف فكري لا يمس امور المسلمين أو مصائرهم، و لم تنسحب نتائجها علي حياتهم طيلة ما يقارب الف و اربعمائة عام.

فلنستمع اليه و هو يتحدث عن بني امية:

(... فسنجد في سياسة الحكم عن الصورة المثالية، ابرز معالمها تحول الحكم من الخلافة الي الملك العضوض.

و الي هنا يكون قد وقع من الحكم الاموي انحرافات في عالم السياسة ايا كانت الاساليب التي استندوا اليها لتبريرها، الاول هو تغيير النموذج الاعلي لنظام الحكم الاسلامي الذي تتمثل فيه روح الاسلام كاملة، و هو الخلافة، و استبدال الملك العضوض به. و الثاني محاولة اسكات الناس بالقوة عن مراقبة اعمال الحاكم، و امره بالمعروف و نهيه عن المنكر و صرفهم بالعنف عن اداء واجبهم الاسلامي في هذا الشأن.

و تبدو جسامة الآثار التي ترتبت علي هذين الانحرافين، حين نري العهود التالية تأخذهما كأنهما مبادي ء مقررة، مما ادي الي استقرار لون من الاستبداد السياسي في حياة المسلمين كأنه اصل من اصول الحياة الاسلامية.

و قد كان لهذا الامر آثار خطيرة في حياة الامة لم تظهر بوضوح في العهد الاموي، فقد كانت اوضح في العهد العباسي ثم العهد العثماني.

وثمة انحراف ثالث وقع فيه الامويون ثم ظللت رقعته تتزايد في العهود التالية: ذلك هو البحبحة في بيت المال، اما الامويون فقد اباحوا لانفسهم الانفاق من بيت مال المسلمين لشراء الانصار، و تثبيت الملك متأولين ذلك بانه من باب تأليف القلوب، و قد جعل الله الانفاق من الزكاة لتأليف القلوب للاسلام لا لتأييد البيت الحاكم أو التمكين له...). [2] .

(... و لكننا لا نستطيع تبرير كل ما كان يفعله معاوية دون ان نجني علي قيم اسلامية اصيلة..

...، و نؤاخذهم بضرب كل المعارضين بالعنف، بينما كان بعض المعارضين


يحتجون علي مخالفات بني امية، و لا يسعون الي الحكم لمجرد ازاحة بني امية عن السلطان، و كان العلاج الصحيح للامر هو عدول بني امية عن اخطائهم لا ضرب المعارضين الذين احتجوا علي تلك الاخطاء.

و ينبغي الا نهون من الانحرافات التي وقعت من الامويين، انها انحرافات، و ينبغي ان يظل في حسنا انها انحرافات، و كل تهوين من امرها، هو تهوين من القيم الاسلامية ذاتها و ضرورة بقائها في التطبيق الواقعي ناصعة مضيئة تشهد لهذا الدين، (... ان شيئا ما قد حدث في ذلك المجتمع، بتأثير الفتنة اولا، ثم بتأثير الصنف الذي مارسه الامويون في ضرب المعارضين، ذلك هو التضاؤل التدريجي في اشتغال الامة بالرقابة، علي اعمال الحاكم و تقديم النصيحة له و الأخذ علي يده حين يخطي ء كما أمر رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و الانصراف التدريجي الي الشؤون الخاصة سواء أكانت اداء للشعائر التعبدية أو ضربا في مناكب الارض وراء الرزق، و هو بدء منزلق خطير ستري آثاره واضحة فيما تلا ذلك من العهود.

... انما المأخوذ عليهم انهم جعلوا الاستثناء كأنه الاصل، فنسي الناس الاصل، و اعتبروه ليس امرا اساسيا في سياسة الحكم في الاسلام..) [3] .

ماذا يمكن ان نفهم من كاتبنا الاسلامي الكبير الذي يقرأ له العديدون و يستنيرون بأفكاره الاسلامية، و الذي يقرن اسمه اذا ما ذكر باسم الشهيد السعيد (سيد قطب).

انه يشير الي انحراف اموي خطير، اصبح سابقة لكل الانحرافات التي حدثت بعده في سياسة الحكم عندما حولوه من خلافة الي ملك، و اسكات الناس بالقمع عن مراقبة اعمالهم، سبب انحرافهم ترسيخ الاستبداد، لبحبحة في بيت المال و اباحة الانفاق منه لشراء الناس، و هي انحرافات يدعونا الكاتب الي ان لا نهون من شأنها، اذ ان ذلك يهون من شأن القيم الاسلامية ذاتها، و جعلوا الاستثناء كالاصل، فنسي الناس الاصل الخ.

ان امورا كهذه تهول الانسان المسلم العادي، فكيف اذا كان هذا المسلم واعيا و علي مستوي رسالته العظيمة؟ اذ ما يري امامه؟ انه بابسط عبارة: يري خروجا متعمدا علي الاسلام، و يري حربا تشن عليه لحرفه و اخراجه عن الخط الالهي الذي اريد له


ان يقوم عليه، فليست المسألة هنا مسألة سياحة عقلية مجردة لا اثر لها في حياة الناس و مصائرهم، و مستقبلهم، و ليست خلافا في الرأي بين شخصين علي مسألة في علم النجوم أو الفلك.

انها مسألة مصيرية اثرت نتائجها علي آلاف الملايين من البشر علي امتداد تاريخ الاسلام، و يعلم الله أي عدد آخر منهم ستمتد عليه هذه النتائج بعد يومنا هذا.

اننا عندما نتناول هذا الخروج المتعمد من خلال تصور و فهم اسلاميين، لا نجد أمامنا أي حجة نبرر بها ما قام به معاوية و يزيد، و لا نفهم من ذلك الا انه خروج متعمد و سافر و صريح علي الاسلام، و ان من شأن من يقوم بذلك ان يكون غريبا عن الاسلام و ان ادعي انتماءه اليه بالاسم.

و الا فهل تم الخروج عن الاحكام و التشريعات و المبادي ء الاسلامية في مجال واحد فقط، أو في مجالين ليأتي من يقول: ان معاوية تأول فأخطأ، أم ان هذا الخروج كان عن كل احكام الاسلام بشكل صريح، هل كان ذلك قضاء و قدرا الهيين، كما حاولت طائفة عابثة ادعاء ذلك فيما بعد، و نسبت كل ما يقوم به أي انسان الي الله، و ان الانسان مسير لا مخير، و استدلت بظاهر بعض الايات القرآنية التي فهمتها بصورة خاطئة أو اريد لها ان تفهمها بصورة خاطئة.

اما اذا ما انخدع بعضنا فرأوا ان (الخلفاء الامويين) ما زالوا يقومون بالفتوحات و يقيمون الشعائر الظاهرية للدين و يتظاهرون بالصلاح و يرددون بعض الشعارات الاسلامية العامة و يعترفون لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بفضله و نبوته، و ما عدا ذلك، فلم يكن سوي انحراف يجب ان لا ينسي معه فضل هؤلاء علي الاسلام و المسلمين، كما اوحي بذلك لكاتبنا الكبير الاستاذ محمد قطب، فاننا في هذه الحال ينبغي ان نعلم ان المظاهر الشعائرية الطقوسية الظاهرية، مادامت لم تمس العرش، و مادامت تقرب الناس منهم، و لم تكن عاملا يتعارض مع مصالحهم، بل انها قد تزين عرشهم بثوب قشيب مزين، فان وجودها ضروري لهم، و ينبغي ان لا يؤخذ (تمسكهم) الظاهري بها، علي انه الشي ء الحقيقي الذي انطوت عليه قلوبهم، و هذا ما كشفوه لنا من خلال اقوالهم و ممارساتهم و من خلال ما كشفته الوقائع التاريخية لنا و قد تبين لنا ان التستر بأي مظهر ديني لم يكن امرا جديدا، بل انه احد الاساليب التي لجأ اليها الفراعنة و لاقياصرة واسرة الطواغيت، و انه امر لا يزال يلجأ اليه اعداء الدين الحقيقيون بل اشدهم عداوة له لاستمالة الناس و خصوصا البسطاء و السذج منهم.


ان اكبر مؤامرة نفذت ضد الاسلام لم تكن عفوية و انما كانت امرا تسخر له طاقات كبيرة و خبرات للشر هائلة، تفاعلت مع بعضها و مع تلك الخبرات القديمة التي تعاملت بالملك و سياسته كما علمنا من فصول هذا الكتاب، و رأينا فيها معاوية مكرسا حيزا كبيرا من برنامجه اليومي للالتقاء بالقصاصين و رواة السير و قراءة سير الملوك الغابرين و سياساتهم و دهائهم و حيلتهم.

و لم يكن صعبا استدراج اناس كبار مثل كاتبنا، ليهونوا بعد ذلك من شأن ذلك الانحراف الاموي الخطير الذي جر المسلمين جميعا بعد ذلك الي منزلقه المميت، كما استدرج من قبل اناس آخرين عدوا من الاذكياء و العباقرة كابن خلدون و غيره.

و هكذا، ففي الوقت الذي نري فيه وضوح الصورة التي عرضت علينا قبل قليل من هذا الكاتب الاسلامي الكبير و اقصد به محمد قطب، و هو من افضل النماذج و اكثرها انصافا، فاننا نراه، عندما يحاول ان يتناول الامر بالنقد الجدي، فان ستارا من الحياء أو الخشية يغلف هذا النقد و ربما يعود ذلك الي الوضع الذي يعيشه زمن كتابة هذا الكتاب، اذ أنه سرعان ما يتراجع بعد التشخيص الدقيق لانحرافات بني امية، و يدعو الي تبني نظرة نقدية (موضوعية) تبين ما لهم و ما عليهم، و كأنه قد بقي شي ء لديهم لم يفعلوه، و ان ذنوبهم الكبيرة هي مجرد اخطاء بسيطة نشأت عن اجتهادات لا غير، و لم ينتج عنها سوي اضرار بسيطة، لا هذه النكسات الهائلة المتلاحقة التي لا يزال العالم يعاني منها حتي اليوم، و التي جرت اكبر الويلات علي البشرية، عندما استبعد الاسلام بشكل فعلي عن الحياة لمقتضيات السياسة و المصلحة، كما برر هذا السلوك القاتل.

و لسنا بصدد الحديث عن مجزرتي الطف و الحرة هنا، لو اردنا ان نأخذ عهد يزيد مثالا للانحراف الاموي، و هما عملان مشينان قام بهما يزيد خلال حكمه القصير الذي لم يتجاوز ثلاث سنوات الا بقليل، فان هذين الحدثين كانا نتيجة محتمة لمعطيات الحكم الاموي الجائر.

لم يكن يزيد قد استلم الحكم بعد، عندما ثار الامام الحسين عليه السلام و رفض مبايعته، لكنه لم يكن ايضا بالشخص المغمور الذي لا يعرف عنه المسلمون شيئا، فهذا (الخليفة) المرتقب ابن (الخليفة) المتربع علي العرش و المسيطر علي امور الدولة و مقدرات الامة، و الذي اعده ابوه لتولي هذا المنصب قبل عشر سنوات من وفاته (كما


تبين) لنا كان امتدادا لابيه، الذي كان رغم انحرافه الواضح اكثر تحفظا في سلوكه امام جماهير المسلمين.

و كان يزيد لا يستطيع، بل انه لم يكلف نفسه عناء اخفاء تصرفاته المنحرفة الي ابعد الحدود امامهم، بل كان يستهين بهم و بكل قيم الاسلام و مبادئه، فلم يكن يزيد متمسكا حتي بأبسط القواعد المظهرية لهذا الدين، و التي حاول والده ان يأخذه بها لتتحسن صورته امام الامة.

لقد كان استلام يزيد الفعلي للحكم ايذانا بالاعلان الرسمي عن استبعاد الاسلام عن كل دور مرسوم له في هذه الحياة، و رفضه رفضا نهائيا.

هذا هو واقع الامر، و هذا ما علمه الجميع، و في مقدمتهم الامام الحسين عليه السلام، و مع ذلك، عندما تهول بعضهم هذه الحقيقة، و تدعهم يدركون انهم لابد ان يحكموا علي القائمين بالانحراف بالخروج الاكيد عن الدين، يبدأون عند ذاك بايجاد الذرائع التي (يتمكنون) بواسطتها تبرير بعض تصرفات هؤلاء و تفسيرها و ايجاد المخارج (الشرعية) لها لاظهارها في النهاية و كأنها (اجتهادات) أو اخطاء بشرية عادية، ان يشأ الله يغفرها لهم و هو الغفور الرحيم.

و يظل امثال هؤلاء المتمادين الاولين امثال يزيد و غيره يجدون دائما من يختلق لهم الاعذار و يجد لهم الحجج و يدعو لهم و يسأل الله ان يوفقهم و ان يجعلهم في النهاية في مستقر رحمته و ان يهديهم سواء السبيل، متناسين حكمة الله و عدله و حسابه و وعده و وعيده، و كأن ما يصرح به الله (جل و علا) بوضوح في كتابه المجيد و علي لسان رسوله الكريم صلي الله عليه و آله و سلم مجرد كلام لا يقصد به أي شي ء تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا،

و هكذا، و رغم هذا الوضوح الذي يبدو لنا من خلال سطور كتاب مؤرخنا الجليل، فانه نراه يتراجع، و كأنه يندم علي (اندفاعته) هذه امام الملأ، و كأنه يعتذر لمعاوية و يزيد و من هم علي شاكلتهما، و يطالعنا بالنصوص التالية التي لا نستطيع ان نفهم لها معني اذا ما وضعناها مع النصوص التي و ان سبق ان طالعنا بها، ليقول بعد كل ما قاله لنا من قبل:

(ان التاريخ السياسي للمسلمين كان خطا اسود؛ و ليكن كذلك، و لكنه خط اسود في صفحة يغلب عليها البياض..


ان قوما تهولهم الزوبعة التي غشيت المجتمع المسلم بالنزاع بين علي و معاوية، و بمقتل عثمان من قبل، فيحسبون ان الاسلام قد توقف و انتهي عند هذه النقطة، فما بالنا نقف عند الزوبعة و لا نلتفت الي المد؟؛ انها معجزة هذا الدين ان يستوعب الصدمة المدمرة ثم يقوم معافي يستأنف نشاطه كأن لم يصبه شي ء) [4] .

(.. لا يوجد نص يحدد شكل الحكم في الدولة الاسلامية، فقد جاء النص عن امرين رئيسيين:

الشوري، و الحكم كما انزل الله، و لكن لم يرد نص يحدد شكل الحكم، خلافة أم ملك: مدي الحياة ام لمدة محدودة؟ الي غير ذلك من التفضيلات الا جرائية التي ترك امرها لاجتهاد الامة المسلمة عند التطبيق.

و لقد (... هزت الفتنة وجدان المسلمين هزا عنيفا حتي تمنوا ان ينتهي الصراع علي اية صورة، و ان يعود المجتمع المسلم الي الاستقرار، و لو علي حساب بعض المثل الاسلامية الرفيعة، و كان هذا من الاسباب التي دعت فريقا من اجلة الصحابة ان يتحاشوا الدخول في الصراع مؤيدين عليا أو معاوية، خشية ان يزيد تدخلهم من حدة الصراع بدلا من ان يحسمه.

و حين نعيد كتابة هذه الفترة ينبغي ان نكون علي بينة من عدة محاذير، المحذور الاول: ان معظم ما نتداوله في مدارسنا و في دراساتنا عن هذه الفترة مكتوب بأيد شيعية أو سبئية همها الاول التشنيع علي بني امية و تجسيم اخطائها و ابرازها و اخفاء الحسنات، و تفسيرها تفسيرا ملتويا يذهب بما فيها من الخير و يعرضها كأنها من السيئات.

و سنجد حين نلتزم بتلك الضوابط الاسلامية جميعا، اننا نستطيع ان نفسر و نبرر كثيرا من اعمال معاوية التي قام الشيعة و السبئيون بتشويهها لهوي في انفسهم، و لكننا لا نستطيع ان نبرر كل ما يفعله معاوية دون ان نجني علي قيم اسلامية اصيلة.

ثم انه يجب علينا ان نتذكر ان ما ينطبق علي شخص معاوية و ظروفه، لا ينطبق بالضرورة علي شخص يزيد و ظروفه، و لا ينطبق بالضرورة كذلك علي بقية حكام بني


امية، بحيث تصبح براءة معاوية مما نسب اليه كله أو بعضه شهادة تبرئة لكل حكام بني امية بالتبعية.

و لا نحاسب بني امية و لا بني العباس و لا آل عثمان و لا غيرهم بتلك القمم الشاهقة التي وصل اليها افراد في المبتمع المسلم في عهد الذروة...،

ان الانشغال بالجهاد ظل حيا في النفوس، و ان الحكم الاموي حرص علي احيائه و تغديته.

ان خطورة انحرافات سياسة التي وقعت من بني امية و التي اخذت تنعكس رويدا رويدا علي المجتمع المسلم في عهدهم لا تكمن في درجة تلك الانحرافات، فلم تكن درجتها خطيرة بالقياس الي الاحداث التي وقعت في ذلك الحين.

و ليس المأخوذ علي بني امية انهم استخدموا فقه الضرورة حين دعت اليه الحاجة عقيب الفتنة. ثم جدت انحرافات جديدة لم يكن لها وجود في عهد الامويين، كان من ابرزها الترف الذي اخذ يتفشي قصور الخلفاء ثم الامراء و الورزاء) [5] .

و (كان الامويون رغم تحويلهم الخلافة الي ملك يحرصون علي ان يختاووا اصلحهم ليتولي الحكم.

تلك هي الانحرافات التي أسسها بنوأمية، و لم تكن في وقتهم بادية الخطر لأن حجمها كان ضئيلا. و قد كان الأمويون برغم وجود الترف - أقل فسادا بالمال من العباسيين، لأنهم كانوا أكثر انشغالا بتثبيت دولتهم من ناحية، و بالجهاد في سبيل الله من ناحية أخري) [6] .

و هل هذا استدراك أم تراجع عما قاله كاتبنا الكبير أولا...؟ ألم يدرك بعد أنه يتكلم عن أخطر قضية من قضايا الاسلام، ترتب عليها ابتعاد حقيقي عنه من قبل الحاكمين و الأمة علي السواء، و ترتب عليه تعطيل الحدود التي كان ينبغي أن تكون هي العاملة و الواضحة في خط العمل الاسلامي و مسيرته...؟


و من ان السنن الربانية التي تحدد مدي الصعود و الانحدار لأية أمة من الأمم و منها امتنا الاسلامية، قد لوحظت من قبل كاتبنا الكبير عند تناوله هذا الموضوع الحساس الذي يتعلق بعموم المجتمع الاسلامي منذ بداية عهد معاوية...؟و هل لوحظت خصوصية القانون الرباني و الخطاب الالهي للأمة المسلمة.. (يأيها الذين ءامنوا ان تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم) محمد: 7 [، و هل ظلت أمام أنظار هذه الأمة المسلمة علي الدوام؟.

ان مقياس نصر هذه الأمة و سموها و ارتفاعها مرهون بتمسكها بكتاب الله و نهجه و صراطه دون تفريط بأي جانب من جوانبه، حتي و ان بدا الخروج للمجتهدين المتؤولين) من فقهاء الدولة و المتفقهين - (باجتهادهم و تأويلهم) قليل الخطر سهل العواقب، ان نصرالله لابد أن ينال بالتمسك التام بدينه و شريعته المقدسة.

و ان أحد أسباب الاخلال بهذه السنة الربانية و التي كان من نتائج انحراف الأمة المسلمة عنها، انحدارها و هزيمتها و تراجعها، هو تأثير الحاكمين الذين تسلطوا علي الامة و وجهوها لتتصرف وفق هواهم و رغباتهم و طموحاتهم.

ان الحاكم فرد من الأمة، و السنن الربانية تجري عليه كواحد منها، كما تجري عليها كلها، غير اننا نتساءل: متي كانت الأمة في غياب الوعي و الشعور بالمسؤولية، و في وجود القمع و الارهاب و الكبت سياسة حكامها؟ و اذا ما استجابت الامة لرغبات حاكم معين حاول ان ينحرف بها عن خطها الصحيح و انحرفت معه و بتأثيره، هل يستطيع أي فرد من افرادها تبرير انحرافه امام الله بأي حال من الاحوال اذا ما عرض عليه يوم الجزاء الاكبر؟

وهل تستطيع الامة بمجموعها، اذا ما وقفت نفس ذاك الموقف ان تبرر هذا الانحراف؟

و هل تستطيع ان تدعي ان الحاكم هو وحده المسؤول عن ذلك؟ و هل تقف السنن الربانية و تتعطل بمجرد اظهار هذا التبرير من الامة و قولها: ان تلك كانت رغبة حكامها و انها استجابت لرغبتهم الذين بايعتهم و لم تملك ان تخلعهم أو تثور عليهم لان في عنقها بيعة لهم وثقها و كتب نصها فقهاء الدولة و وعاظها؟ و هل لا تكون هي المسؤولة المباشرة عن تقويم سلوك الحاكم نفسه، و تصرفاته الشخصية اذا ما تغير أو انحرف لنفس السبب المذكور؟


ان تأثر الامة بحاكمها امر بدا واضحا في كل مراحل التاريخ الاسلامي، و الا فهل يستطيع احد ان يتجاهل الاثر الخطير الذي تركته السياسة الاموية (الرائدة في فن تذويب الامة و ابعادها عن الاسلام، حينما جعلت من اللامبالاة و ضعف الشعور بالمسؤولية هي الصفة السائدة بين افراد هذه الامة، و جعلت من سلوك (خلفائها) نماذج مشينة متنافرة مع ابسط النماذج الاسلامية المطلوبة، مع انها تمثل اكبر الشخصيات الاسلامية بل اكبر رموز الاسلام و واعظهما علي مر الازمان، و هي شخصية رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، تحكم باسمه و تخلفه علي امرة المؤمنين و قيادتهم و امامتهم؟

كيف تبرر الامة موقفها امام خالقها، و قد جعلت من حاكمها و هواه بديلا و الها؟ ألمجرد انه (تغلب) و لا يهم كيف و بأي اسلوب و اصبح (خليفة) و (أميرالمؤمنين) و اصبحت (بيعته) التي يصح انعقادها بواحد أو اثنين ملزمة للامة كلها و لا يجوز الخروج عليها و ان كان فاسقا؟

انه لأمر خطير حقا، و قد بدا خطره فعلا فيما بعد، فيما مر من عصور، ان اصبح معاوية ثم يزيد المشكوف الذي اعلن للامة منذ اللحظة الاولي لاستلامه الحكم، و في الخطاب الاول الذي القاه:

(... لست اعتذر عن جهل و لست اشتغل بطلب العلم) [7] .

هكذا قال لهم بفصيح العبارة و واضح القول: عليكم ان تقبلوني علي علاتي و كما انا. و مع ذلك فان هذه الامة قد قبلته، و لم تتساءل عن سلوكه، و احنت رأسها امامه و اسلمت قيادها له.

و مهما حاول المتخصصون بفنون التجميل، تحسين صورة يزيد و تقريبه الي الامة،فانهم لم يستطيعوا ان يقولوا اكثر مما قال ابن كثير في (البداية و النهاية):

(.. و قد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم و الحلم و الفصاحة و الشعر و الشجاعة و حسن الرأي في الملك، و كان ذا جمال حسن المعاشرة، و كان فيه ايضا اقبال علي الشهوات، و ترك الصلوات في بعض الاوقات، و اماتتها في غالب الاوقات) [8] .


اترانا هنا نتحدث عن الملك الضليل امري ء القيس أو عن طرفة بن العبد، فنذكر له هذه الصفات التي قد تؤهله لان يكون ربما ندا لاحدهما لانهما امتازا بهذه الصفات، و ربما بأكثر منها، بل ربما كان حتي السليك بن السلكة، و تأبط شرا امتلكا هذه الصفات.

اننا نتكلم هنا عن (خليفة المسلمين) لا عن رائد ظريف من رواد الملاهي، امتاز بالفصاحة و الشجاعة و الكرم و قول الشعر و حسن المعاشرة، فهل هذه هي المؤهلات المطلوبة عند خليفة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم..؟

اننا لا نتكلم هنا عن بطل من ابطال الحانات أو عاشق من عشاق الغانيات، أو احد احلاس البطالة و الكسل و الترف، لنجد في النهاية ان ما اورده ابن كثير له من صفات هي لائقة به جدا.

اننا لا نتكلم ايضا عن (كسري) أو (قيصر) أو (فرعون)، و انما نتحدث عن خليفة محمد صلي الله عليه و آله و سلم و ممثله، و امام المسلمين و قائدهم، و عندما نبحث في الزوايا لا نجد له حتي الصفات التي ذكرها بعض المؤرخين بأنه كان كريما حليما فصيحا شاعرا شجاعا حسن الرأي في الملك جميلا، حسن المعاشرة، و ليس فيه من نقص سوي بعض الاقبال علي الشهوات و ترك بعض الصلوات و اماتتها في اغلب الاحيان.

أتري ان الاقبال علي الشهوات و اماتة الصلوات مما يليق بمسلم عادي لا يتحمل الا مسؤولية نفسه؟ كيف نراها غير ضائرة و لا مخلة برجل يتحمل مسؤولية الامة كلها و نتكلم عنه بهذه الرخاوة المثيرة..؟

هل حدثنا مؤرخ بخلاف ما حدثنا عنه ابن كثير؟ مهما حاول ان يحسن صورته فهو لم يستطع ان يقول افضل مما قال، و قد سمعنا ما قيل عن يزيد.

فكيف نستطيع ان نفهم ما قاله الاستاذ محمد قطب:

(كان الامويون رغم تحويلهم الخلافة الي ملك يحرصون علي ان يختاروا اصلحهم ليتولي الحكم..) [9] .

فهل كان يزيد أصلح بني امية لتولي مهمة الخلافة...؟


و اذا كان يزيد اصلحهم فكيف حال اسوئهم يا تري؟ و هل كاتبنا الفاضل مقتنع حقا بما يقول؟


پاورقي

[1] کيف نکتب التاريخ 113 - 110 - 124.

[2] المصدر السابق.

[3] المصدر السابق ص 125 - 115.

[4] المصدر السابق 58 / 14.

[5] نفس المصدر 126 - 110.

[6] نفس المصدر 127 - 126.

[7] مروج الذهب80 / 3.

[8] ابن‏کثير، البداية و النهاية 233 / 8.

[9] کيف نکتب التاريخ 126.