بازگشت

تمهيد


لقد رأينا المجتمع الاسلامي في غضون ملاحظاتنا في هذا الكتاب، و هو يفقد بعض مقومات وجوده كمجتمع ذي كيان خاص قائم علي مجموعة المبادي ء و الخصائص الاسلامية، و كان تجريده من أي من مقومات وجوده يعني فقدانه لعنصر التكامل الذي جعل منه ذلك الكيان المعروف ذي الخصائص المنسجمة المتناسقة، و يعني الانحدار به و تشويهه و سلبه حياته و ديمومته و بقائه. فهو مجتمع لم يبن علي أسس و تصورات بشرية خالصة، يمكن تغييرها عند تغيير الظروف و الاشخاص، بل هو قائم علي تصور الهي، كل ما فيه يتجه الي تكريس خلافة الانسان علي الارض و تنظيمها وفق السنن الالهية التي أوضحها القرآن الكريم و الرسول العظيم صلي الله عليه و آله و سلم.

و قد رأينا كيف ان التساهل مع الانحرافات البسيطة في عهود سابقة علي عهد معاوية، ادي الي ان يتسع الشق، و يتمادي معاوية، و من بعده يزيد بالانحراف بزاوية منفرجة لا يبقي معها مجال لجدوي اية دعوة اصلاحية، تريد تقويم هذا الجانب أو ذاك، بل لابد من اعادة بناء هيكل المجتمع الاسلامي، بناء جديدا، يبدأ من رأس الدولة و هو [الخليفة] في هذه الحالة، و يستمر الي استكمال و استعادة ما فقد من مقومات هذا المجتمع، و هي كثير و متعددة.

لقد كان انحراف الامة الاسلامية مخططا له بعناية فائقة و بفعل مدبر، لاننا رأينا ان شكل الانحراف الاخير ما كان ليقبل في المجتمعات التي سبقت معاوية أو يزيد، فهو حدث ضخم اثر علي كيان الامة كله، و قد تم بتسارع موزون و خطوات متصاعدة لم تكن تبدو اعتباطية، بل بخطوات مدروسة معدة، فقد تغير كل شي ء في هذه (الدولة الاسلامية) الجديدة.

تغير النظام المالي، و تغيرت المفاهيم العبادية، و كذلك العلاقات الاجتماعية، و تغير هيكل الدولة الاسلامية، و تغيرت التصورات الاسلامية، و عادت اغلبها،


تصورات جاهلية بحتة تؤكد علي قيم الجاهلية و أفكارها، و قد تكون مغطاة باغطية (الشرعية الاسلامية الاموية).

كما تغيرت كل اساليب العمل و الاداءات السلوكية في دولة الاسلام الاموي، و قبل كل شي ء: تغير رأس الدولة، و خليفة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم الذي كان ينبغي ان تتوفر فيه مواصفات القيادة و الامامة و الخلافة علي نفس الاسس التي ارادها الرسول الكريم صلي الله عليه و آله و سلم، و عمل علي الظهور بها،، عند قيادته الفعلية لهذه الدولة.

و عندما يشير احد الي ان ذلك غير ممكن عمليا، اذ لا أحد كالرسول صلي الله عليه و آله و سلم، فاننا نقول بان الاداء العالي في قيادة الامة كان يمكن ان يستمر علي نفس تلك الوتيرة لو وضع الرجل المناسب الذي اعده الرسول صلي الله عليه و آله و سلم في مكانه الصحيح منذ البداية، و لو لم تأخذ الاحداث مجراها التي اخذته والتي حدثنا التاريخ عنها فيما بعد.

و عندما يختفي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم من الساحة بوفاته و هو امر لابد ان يحدث و قد حدث فعلا فان الامور كان يمكن ان تستمر كما كانت علي عهده لو تولي القيادة من يحمل فهمه و تصوره و استعداداته و شعوره العالي بالمسؤولية، و من كان بحكم ذلك اقرب الي العصمة من أي كائن بشري آخر، لانه من نتاجه و اعداده و تربيته، و هو أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، أن رفض فكرة امكانية قيام الاسلام بقيادة الحياة و حل كافة مشكلاتها علي اساسه و وفق قوانينه و جعله يقتصر علي مجرد الممارسات الطقوسية التعبدية التي تأخذ الشكل المسيحي للعبادة، تعني الغاء دور الاسلام نهائيا و اقرار عدم ضرورة وجوده، كما تفعل بعض الدول المعاصرة التي تعلن ان الدين الرسمي لها هو الاسلام، و تعلن فصله عن السياسة و امور الحكم بقرار واضح و تشريعات معلنة و لا مبطنة كما فعلت الدولة الاموية، فالاسلام دين وجد ليطبق علي اساس انسجامه مع الوجود الانساني، ليقود الانسان الي الخلاص الحقيقي من ربقة التصورات البشرية الارضية البحتة، و ليرفع من هذه التصورات، ليجعلها تتفاعل و تنسجم مع تصوره الكامل كما اوضحه القرآن الكريم و السنة المشرفة.

ان علينا ان لا نفكر بعقلية الانسان الذي وجد نفسه يعيش في مجتمع حمل الهوية الظاهرية للاسلام و يتسمي باسمه، لكنه لا يحمل منه الا هذا الاسم فقط، و الذي لم يعرف منذ البداية طعم الفعل الحقيقي أو التطبيق العملي لهذا الاسلام، و لم يسمع عنه انه قد طبق بشكل حقيقي الا مرة واحدة و منذ زمن بعيد، و قد وجدنا انفسنا و نحن لا نعرف من الاسلام الا اسمه و لا نعرف الا بعض مفاهيمه العامة بشكل


سطحي غائم، و طبيعي ان تضيع المفاهيم الحقيقية في غمرة الصراعات التي شهدها و يشهدها العالم في زمن الرسالة و بعدها و حتي وقتنا الحاضر، و طبيعي ان يتجه تفكير بعضنا تجاه هذا الفهم ان الاسلام، عندما لم يطبق الا في فترة محدودة و قصيرة جدا، قياسا الي الفترة الطويلة من عمره، فان معني ذلك انه يفتقد بعض المقومات أو الحلقات المفقودة؛ و اننا لن نستطيع، و نحن اكثر بعدا عن ذلك العصر الاول الذي طبق فيه بشكل تام و باداء عال، ان نجدها ونعيدها الي السلسلة الكاملة أو العقد الكامل للتشريعات و التصورات الاسلامية.

ان عدم تطبيق الاسلام من قبل من سبقونا يسلب آخر ما يتبقي من ثقة و مقاومة في نفوس الكثيرين منا، و يرون ان السعي بهذا الاتجاه مضيعة للوقت، و ضرب من الخيال، و يحسبون ان الخلل في هذا الدين و ليس في من سطوا عليه و نصبوا من انفسهم قادة للمسلمين و أئمة لهم.

و لا شك ان ما وقع بعد نصف قرن فقط من حكومة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، حينما استبعد الاسلام بشكل عملي عن الحياة العامة، كان يشكل اكبر خيبة امل للجيل الذي نشأ في تلك العقود، اذ عادت معظم القيم و الاوضاع و الممارسات الجاهلية، و لما تكد تختفي، و عادت طبقات ثرية مترفة الي الظهور في مركز الصدارة، و تكاد تكون هي نفسها سليلة تلك الطبقات المترفة الجاهلية الاولي قبيل ظهور الاسلام.

لقد وظف الاسلام من قبل معاوية لتعزيز مصالح هذه الطبقة الجديدة التي عادت اكثر ثراء و نفوذا و ترفا في عهده و العهود اللاحقة، و التي اصبحت لا تكلف نفسها في اغلب الاحيان حتي الالتزام المظهري بالاسلام، و شجع سلاسل اخري من الحاكمين علي ان تحذو حذو هذه الدولة الاموية فيما بعد لتتفوق عليها في مجال الانحراف عن الاسلام، بل و تخرج بشكل سافر عن معظم حدوده و قوانينه التي لا يعود الاسلام بعد نبذها و استبعادها اسلاما حتي بالاسم ايضا.

و قد رأينا كيف مهد معاوية لهذا الخروج المتعمد، و كيف استدرج الامة حتي قبلت بيزيد خليفة لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عليها.

ان معاوية كان من (الذكاء) و بعد النظر (والدهاء) بحيث ادرك انه كان لابد ان يبقي في الظاهر محافظا علي الاشكال الظاهرية التي يعرف بها المسلم، و انه استطاع ان يحيط نفسه بهالة مزيفة من القداسة ادعاها بحيث بدا مقبولا من فئات كبيرة من


المجتمع الاسلامي في عهدها، و ربما في عهود لاحقة ايضا، الا ان يزيد بحماقاته و قصور نظرته و بالارث الضخم الذي ورثه عن والده و اصبح كل شي ء فيه رهن مشيئته دون ان يكلف نفسه عناء أي شي ء، و الذي كان فاسقا متجاهرا بفسقه و دعارته منذ بداية شبابه، لم يكلف نفسه عناء اخفاء كل ذلك، ظانا ان الامور وجدت كذلك، و ان الاسلام هو اسلام والده لا اسلام محمد بن عبدالله صلي الله عليه و آله و سلم.

فهل كانت مجرد الرغبة بتغيير الحال أو التضحية ببعض المكاسب قادرة لوحدها علي ردع هذا (الخليفة) الاسد ورده عن سلوكه المشين، و تقويم نظام الحكم برمته؟ و من كان ينبغي ان يضحي اولا ليردع هذا الشخص المتسلط و دولته؟ اهو شخص بعينه ام الامة كلها؟ لا شك ان الامة كلها مسؤولة عن ذلك، و ما لم يرتدع (الخليفة) و يتراجع، و يستجيب للاسلام استجابة تامة، فان مسؤوليات الامة تحتم عليها عدم السماح له بالبقاء في مركز القيادة خليفة لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و يجب ان يتيح الفرصة امام المؤهلين الحقيقيين لشغل هذا المنصب الحساس.

و لقد انتفضت الامة فعلا علي يزيد و لكن متي؟

فبعد واقعة الطف و استشهاد الامام الحسين عليه السلام و اصحابه. ادركت واقعها، و ادركت انها لابد ان تقف موقفا حاسما من الانحراف المتعمد، و الاضاع كل شي ء. لقد جاءت هذه الانتفاضة نتيجة الصحوة الاسلامية الكبري التي اثارها الامام الحسين عليه السلام بموقفه الحازم لوقف الانحراف، و هذا امر سنتحدث عنه ان شاء الله بعد ان نستعرض احداث و ملابسات تلك الثورة الكبيرة التي لم يدرك ابعادها و اسبابها و نتائجها الباهرة الكثيرون لحد الان.

و سوف نجد ان مواقف الائمة (علي و الحسن و الحسين) كانت مواقف واحدة، استهدفت وقف الانحراف بالطريقة المناسبة التي رآها كل امام، و انها لم تكن مواقف متناقضة كما حسبها البعض ممن لم يكلفوا انفسهم عناء دراستها و استقصاء نتائجها.

لقد كان موقف الامامين علي و الحسن عليه السلام خلفية اصيلة لموقف الامام الحسين عليه السلام، الذي كان مكملا لهما، و لانه كان الموقف الوحيد المناسب لوقف الانحراف الذي امتد و استطال بشكل معلن مكشوف، اذ لم يحاول يزيد، رأس الدولة الاسلامية التستر أو التخفي علي ممارساته اللا أخلاقية الفاضحة، و كان الامر نفسه مع عماله و حاشيته بعد ذلك، الذين اثر سلوكهم في المجتمعات التي حكموها، فقد


(غلب علي أصحاب يزيد و عماله ما كان يفعله من الفسوق، و في ايامه ظهر الغناء بمكة و المدينة، و استعملت الملاهي و اظهر الناس شرب الشراب). [1] .

مع ان التمهيد لظهور حالات التسيب و الابتعاد عن الاسلام في المدينة قد بدأ في عهد معاوية، بشكل اثار بعض الصحابة فدعوه للقضاء علي تلك الظواهر.


پاورقي

[1] مروج الذهب 82 / 3.