بازگشت

مجتمع شاذ مجتمع التناقضات


ان مجتمع الظلم الفرعوني من شأنه أن يفرز قيما و حالات شاذة تتقاطع و تتعارض مع القيم الاسلامية الأصيلة التي تتجه بالانسان نحو العمل الايجابي البناء الذي يستثمر طاقات الانسان و ابداعه و تبعده عن الانحدار و الانجراف و الهلاك، و من شأنه أن يفرز أصنافا من الناس لا يمكن أن تظهر في الحالات الطبيعية و في المجتمع السوي الذي يريده الاسلام، فهو مجتمع الفساد و الانتهازية و قوة الغاب و الشر و النفاق و المعصية و الحسد و التنافس غير الشريف و الخوف و الفقر و الجور. و قد رأي أميرالمؤمنين عليه السلام بوادر ظهور هذا المجتمع و مقدمات هذه الظهور بعد أن رأي العبث الذي كان يجري في عهد عثمان و الذي كان يمهد لمصلحة فئة خاصة من الناس ظهرت كطبقة مترفة جديدة ابتعدت عن الاسلام، و ربما كانت بعيدة منذ البداية عنه. و رأي أن الحال لا يمكن تغييره بمحاولات اصلاحية بسيطة و أنه يتأزم و يتغير نحو الأسوأ.

و هكذا أعرب عن شعوره هذا، و وصف الحالات الاجتماعية الشاذة التي بدأت تظهر في المجتمع الذي أريد جره الي الانحراف و السقوط في أحضان فرعون و ملئه و زبانيته، محذرا المجتمع من مغبة الوصول الي ما أراد أعداء الاسلام ايصاله اليه. لأنه سيعود عند ذاك مجرد حطام مجتمع و مجرد أثر غابر و أمة فاسدة سبقتها غيرها من الأمم الي الفساد.

و قد خطب عليه السلام قائلا: (أيها الناس، انا قد أصبحنا في دهر عنود، و زمن كنود، يعد فيه المحسن مسيئا، و يزداد الظالم فيه عتوا، لا ننتفع بما علمنا، و لا نسأل عما جهلنا و لا نتخوف قارعة حتي تحل بنا. و الناس علي أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض الا مهانة نفسه و كلالة حده، و نضيض وفره. و منهم المصلت لسيفه و المعلن لشره، و المجلب بخيله و ررجله قد أشرط نفسه و أوبق دينه لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده أو منبر يقرعه. و لبئس المتجرد أن تري الدنيا لنفسك ثمنا و مما لك عند الله عوضا! و منهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة و لا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه و قارب من خطوه و شمر من ثوبه، و زخرف من نفسه للأمانة، و اتخذ ستر الله ذريعة الي المعصية، و منه من أبعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه و انقطاع سببه فقصرته الحال علي حاله، فتخلي باسم القناعة و تزين بلباس أهل الزهادة و ليس من ذلك في مراح و لا مغدي.


و بقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع، و أراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد ناد و خائف مقموع، و ساكت مكعوم، و داع مخلص، و ثكلان موجع، قد أخملتهم التقية و شملتهم الذلة فهم في بحر أجاج، أفواههم ضافرة، و قلوبهم قرحة، و قد وعظوا حتي ملوا، و قهروا حتي ذلوا و قتلوا حتي قلوا) [1] .

و تفرز الأصناف الأربعة الأولي كل حاجات فرعون من الرجال الذين يزينون عرشه و يدعمون حكمه، حاشية و اتباعا و قادة عسكريين و وعاظا للسلاطين و متاجرين بالدين و أثرياء و سماسرة و غيرهم، و ذلك ما هو بحاجة اليه.

أما الصنف الأخير فان فرعون يحاول اسكاته بكافة الطرق المناسبة، و يستعين عليه ببقية الأصناف الأولي. فهو صنف يقظ منتبه واع، لا ينشد الا مصلحة الاسلام، أما مصلحته الذاتية فهي آخر شي ء يفكر به. و قد استغل فرعون ذلك لجعله يظل فقيرا و حرض عليه تلك الأصناف عندما جعلها تعتقد أن مصالحها ستتضارب مع (مصالحه) مع أن لا مصلحة له الا انقاذ الجميع، حتي فرعون و ملئه و حاشيته. غير أن فرعون و الملأ و الحاشية في غمرة التمتع بكل لذائذ الأرض و نعيمها لا يرون فيه الا عدوهم الذي يريد أن يستلب لنفسه كل ما استلبوه بالقوة و المكر و الحيلة.


پاورقي

[1] نهج‏ البلاغة 75 - 74.