بازگشت

مجتمع طاغوتي مترف


و قد شهدنا المجتمع الاسلامي في مطلع العصر الأموي، ثم خلال ذلك العصر كله، مجتمعا طاغوتيا، عادت الطبقة المترفة الي نفوذها الأول فيه، و برزت ثانية متسلحة بأسلحة جديدة ما كانت تتاح لها قبل ظهور الاسلام، و بدأت تنتشر و تتسع و تمد أيديها الا خطبوطية الي كل مفاصل المجتمع و مرافقه، و لاحت كقوة كبيرة لا يمكن ازالتها بحركة اصلاحية أو رغبة مجردة من الأمة، بل كأمر واقع بدا أنه المسيطر و السائد، كما سيطر و ساد علي بقية المجتمعات الأخري التي لم تعرف الاسلام.


لم تكن أية قوة غريبة عن الاسلام أو من خارجه تستطيع أن تحقق الدمار الذي حققه معاوية بهذا الدين. فمعاوية عمل من الداخل، و انطلق في عمله كمسلم حريص علي دينه أمام أنظار المخدوعين من أهالي الشام، و كانسان مصلح غيور أمام أنظار قريش التي هادنته و مالت اليه لأنه يحقق أحلامها القديمة في الثروة و السيادة، و لم يكن بحاجة الي اقتحام السور من الخارج. و هذا هو الأمر المخيف بالمسألة كلها، و الذي لانزال نعاني من تبعاته و آثاره. فعمله كان و لا يزال مثار خلاف بين المسلمين أنفسهم، و قد توزعوا في أمرة قسمين، قسم رأي ما رآه معاوية و أتباعه من وعاظ السلاطين و المتاجرين بالقرآن و الحديث و الذين لا تزال جماهير كبيرة من الأمة تنخدع بهم و بضخامة أسمائهم. و قسم رأي الأمر علي حقيقته، فلم ينخدع بالحجج الواهية التي برر بها معاوية سلوكه و خروجه المتعمد علي الامام وثقة الأمة المسلمة الي طبقتين تتناقض مصالحهما و تحاول الأولي منهما و هي الطبقة المترفة الثرية المتنفذة أن تستعبد الثانية و تستغلها الي الأبد.

لقد أعاد معاوية المجتمع الي حالة التناقض و الا رتباك التي شهدتها المجتمعات الجاهلية، لا التناقض في مجال حياتي واحد و حسب، بل التناقض الشامل القائم علي نظرتين مختلفتين الي الكون و الحياة، أعاد التناقضات الاجتماعية بتوسيع شقة الفرق في المستوي المعيشي و حجم الثروات الشخصية، و تقوية التيارات القبلية، و استمالة رؤساء القبائل بالأموال و القطائع، و أوجد التباسا و فهما خاطئا للاسلام نفسه بزرع جيش القصاصين و المحدثين و المفسرين و الصحابة و الوعاظ و الشعراء الذين راحوا يروجون للمنط الجديد من الحكم و الحياة و يروون أشياء من شأنها أن تثير تساؤلات عديدة حول طبيعة الدين الاسلامي نفسه، و جدوي وجوده كقوة منظمة فاعلة قادرة علي قيادة الحياة و ادراة شؤون الناس ادارة عادلة محكمة.

لقد استبعد معاوية الاسلام كقوة حقيقية، و جعل منه مجرد قشرة خالية من اللب و غطاء لثمرة فاسدة، و استبدله بنظام ممسوخ أوجده هو ورسخه خلفاؤه من بعده.