بازگشت

مكر أم غباء


كانت حياة عمرو بن العاص حافلة بالمكائد و الدهاء و الحيلة، و لم يكن ابن النابغة هذا ممن يعتز بطهارة مولد أو يفتخر بأصل أو محتد يفتخر به أمام الناس، فكان لابد لعقدة النقص هذه أن تثير فيه كوامن الحقد علي المجتمع أولا، ثم كوامن التطلع و الصعود الي أكثر من مستوي (السادة) الحقيقيين،! ليعوض بعض ما يراه الكثيرون - حتي وفق قيمهم الجاهلية، عيبا و شينا، و ان كان هو شخصيا لا يد له فيه.

كان عمرو بن العاص يفتخر بأنه (داهية) مثل معاوية، و تلك كانت كل مواهبه، و اذا ما أخذنا الدهاء علي أنه التصدي للأمور بمقتضي الحال، وفق ما يمليه عليه الواجب، و وفق فهمه لأمور الشريعة، فذلك هو الحكمة بعينها، أما اذا كان الدهاء يعني عنه المكر و الحيلة و الوصول الي الغاية بكل الطرق المتاحة و التوصل الي الغلبة بأية طريقة، و غض النظر عن الاسلام و قيمه و استقامته، فان الدهاء هنا ينتصب صورة مشوهة للقوي و الغرائز المتدنية و لا يعني الا استنفارها لتحقيق الغلية و حسب.. و لا يهم ان تلاقت الأساليب مع الاسلام أو افترقت عنه.. و لا يهمه أن غرق الأمة أو حرقها في سبيل أهدافه الشريرة.

و رحم الله أباالحسن عليه السلام عندما يصف هذا النمط من الناس... (آثروا عاجلا و أخروا آجلا، و تركوا صافيا و شربوا آجنا. كأني أنظر فاسقهم و قد صحب المنكر فألفه،... حتي شابت عليه مفارقة، و صبغت به خلائقه، ثم أقبل مزبدا كالتيار لا يبالي ما غرق، أو كوقع النار في الهشيم لا يحفل ما حرق) [1] .

و من الطريف أنه حتي اذا ما قال قائل أمام معاوية أو عمرو نفسيهما بأنهما علي باطل و أنهما يجانبان الاسلام و يبتعدان عنه، و هما يسعيان للغلبة و النصر و التفوق فهما لا ينزعجان من ذلك و يتقلانه علي أنه شهادة بمهارتها و قدراتهما في الحلية (و الدهاء) الذي لابد منهما لمن يتولي حكم الناس و سياستهم، و قد يعتبران ذلك زينة للرجال (الكيسين) الكبار، مع أنهما في الواقع قد لا يجدان ما يردان به علي الناقدين الذين ينطلقون في نقدهم من منطلقات اسلامية بحتة، و كم قد روي لنا عن أناس تصدوا لمعاوية بالنقد و التجريح فلم ينزعج بل قال (... اننا لا نحول بين الناس و ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا و بين ملكنا) كما بيناه من قبل.


كانا متآمرين قديمين و سارقين لمكاسب الأمة يعرف أحدهما الأخر حق المعرفة. و تروي عنهما تلك الحادثة التي أشارت الي عدم نزاهتهما و قيامهما بموقف تمثيلي أمام عمر عندما أو شكا أن يتكاشفا بما فعلاه و قاما به من سرقات (قدم معاوية من الشام و عمرو بن العاص من مصر علي عمر بن الخطاب فأقعدهما بين يديه و جعل يسائلهما عن أعمالهما الي أن اعترض عمرو في حديث معاوية، فقال له معاوية: اعملي تصيب و الي تقصد؟ هل نخبر أميرالمؤمنين عن عملي و أخبره عن عملك! قال عمرو: فعلمت أنه بعملي أبصر مني بعمله! و أن عمر لا يدع أول هذا الحديث حتي يصير الي آخره فأردت أن أفعل شيئا أشغل به عمر عن ذلك، فرفعت يدي فلطمت معاوية. فقال عمر: تالله ما رأيت رجلا أسفه منك! قم يا معاوية فاقتص منه. قال معاوية: ان أبي أمرني أن أقضي أمرا دونه.فأرسل عمر الي أبي سفيان فلما أتاه. قص علي ما جري فقال: لهذا بعثت لي. أخوه و ابن عمه، و قد أتي غير كبير، و قد أتي غير كبير، و قد وهبت ذلك له) العقد الفريد 18 / 1 فانظر الي دهائهما في التخلص من ورطتهما التي كاد أن يكشفا فيها أوراقهما.

و لا يستطيع أحد أن ينكر المواهب الكبيرة التي تمتع بها عمرو بن العاص، و لا تلك التي تمتع بها معاوية، و هي مواهب استثنائية فريدة، و قدرات تدل علي الذكاء الكبير، غير أنه مواهب و قدرات كرست للشر الخالص، فكأنهما في ميدان الشر شيطانان من شياطين الانس، و قد وصف الامام عليه السلام معاوية بهذا الوصف فعلا عندما كتب الي زياد يحذره منه و قد بلغه أنه يحاول استلحاقه بأبي سفيان: «... و قد عرفت أن معاوية كتب اليك يستزل لبك و يستغل غربك، فاحذره فانما هو الشيطان يأتي المؤمن من بين يديه و من خلفه و عن يمينه عن شماله ليقتحم غفلته و يستلب عزته» [2] .


پاورقي

[1] نهج‏ البلاغة 201.

[2] نهج‏ البلاغة 586 - 585.