بازگشت

مثل أعلي (واطي ء)


ان المتتبع لسيرة معاوية و تاريخه يدرك، بلا شك، أن هذا الرجل كان يسعي بخطي حثيثة لوضح مثل أعلي أمام المسلمين، مغاير للمثل الأعلي الذي دعا اليه رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم و جسده بسلوكه و تصرفاته، و هو الاسلام و قيمه و مبادئه، و كان لابد، لوضع هذا المثل الأعلي (الواطي ء) المتمثل به و بعائلته التي حاول أن يمتاز بها عن بقية أبناء الأمة، موضع الصدارة لكي تتطلع اليه هذه الأمة باستمرار بدلا من التطلع الي المثل الأعلي الحقيقي.. و هذا ما احتاج الي تمهيد يأخذ بأذكي الأساليب و أمكرها و أشدها تعقيدا و أكثرها قدرة علي التسلل من جوانب الضعف المتاحة من المجتمع المسلم الذي كان قريب عهد بالجاهلية، و ما كاد يري الاسلام و يؤمن به و يحاول تحكيمه في حياته حتي شهد حملة مضادة لتشويشه و سلخه عن الحياة و مسخه و جعله صنما لا ينبض بأية حياة.. و ما كاد يبرز علي الساحة كقوة قائدة وحيدة حتي برزت معه أشكال جديدة من الصراع قادها نفس أولئك الذين قادوها في بداية الدعوة الاسلامية. و قد حاول أميرالمؤمنين عليه السلام أن ينبه الأمة الي خطر ذلك، و اتخذت حملته طابعا دائميا منظما، الا أن الذين فتنوا الأمة حاولوا أن يصوروه عليه السلام طرفا في هذه الفتنة، بل و طرفا رئيسيا فيها.


و اذ أن الأحداث سارت بالشكل الذي انحرف بها عن مسارها الطبيعي منذ وفاة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم، فانها استمرت تسير بدرجة أوسع من ذلك الذي شهدته أول مرة، و كان تسارع الانحراف في عهد عثمان يبدو أنه في صالح معاوية و أنه تمهيد لنمط مثل نمط حكمه خرج خروجا سافرا عن الاسلام. و لعل الملاحظ يجد أن معاوية قد أفاد فائدة كبري من ذلك و سعي لتعزيز مركز مدرسته الانتهازية العبثية التي لا تري أمامها أي مثل أعلي تتطلع اليه غير مثل المصالح و المنافع الخاصة و الامتيازات الشخصية. و لئن قالها أبوسفيان في عهد عثمان «تلقفوها يا بني أمية تلقف الكرة» و قالها كثيرون غيره من (خلفاء) بني أمية صراحة، فان مؤسس الدولة الأموية و عاهلها جسد تلك المقولة عمليا من خلال استئثاره بالسلطة استئثارا تاما و استيلائه عليها كحق أموي خالص.

و قد ركز اهتمامه منذ البداية خلال حكمه عاملا علي الشام و (خليفة) بعد ذلك، علي أهل الشام و اتخاذهم بطانة لم كما اتخذ الشام مقرا للخلافة باعتبارها المكان الأثير المحبوب المستجيب، و قد أراد الشام أن تكون مركزا لنشر فلسفته و أطروحاته الأموية النفعية، المتطلعة للامساك بمراكز القوي و الجاه و النفوذ و الثروة في كل أرجاء العالم الاسلامي، لكي تستجيب له كلها كما استجابت له الشام. و تنحاز الي صفه كما انحازت هذه.

و تكشف وصيته ليزيد عن مدي تأثيره بأهل الشام - باعتبارهم لم يسمعوا الا صوته و لم يروا الا بعينيه - كما تكشف عن مدي مخاوفه من تأثرهم بغيرهم اذا ما اختلطوا ببقية أبناء الأمة و هذا ما خذره منه بشدة في هذه الوصية. (وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك و عيبتك، فان نابك شي ء من عدوك فانتصر بهم، فاذا أصبتهم فاردد أهل الشام الي بلادهم، فانهم ان أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم) [1] .


پاورقي

[1] الطبري 260 - 3 (.. ثم أردد أهل الشام الي بلدهم و لا يقيموا في غيره فيتأدبوا بغير أدبهم) العقد الفريد 122 - 5.