بازگشت

كشف الانحراف.. لا داعي للتلمحيات


و ينبغي أن لا تغيب عن أذهاننا تهديدات معاوية و خطبه الموضوعة بدقة و التي أراد من ورائها تخويف الأمة بأجمعها و ارهابها و حملها علي السكوت تجاه كل تصرفاته و تصرفات عماله و أقطاب حكومته، و كان يعلم أن تهديداته ستنتشر في أرجاء مملكته بالسرعة التي يتاح فيها لراكب المطي أن يبلغ غايته.

ففي أول خطبة خطبها في المدينة بعد انفراده بالسلطة و في العالم الأول نفسه الذي أطلق عليه خطأ - و بفعل مقصود أيضا - عام الجماعة، قال: (فاني ما والله وليت أمركم، حين توليته. و اذا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي و لا تحبونها، و اني لعالم بما في نفوسكم من ذلك. ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة. و الله لا أحمل السيف علي من لا سيف معه. و اياكم و الفتنة فلا تهموا بها) [1] .

و قال في خطبة أخري: (يا أهل المدينة: اني لست أحب أن تكونوا خلقا كخلق العراق يعيبون الشي ء و هم فيه، و كل امري ء منهم شيعة نفسه، فاقبلونا بما فينا) [2] و لا


يخفي ما وراء هذه الاشارة الي أهل العراق، و ما لا قوه علي يديه بسبب مواقفهم منه، و التهديد المبطن بأنه سيلجأ مع كل خارج عليه الي ما لجأ اليه معهم.. و لا يخفي خوفه من النقد هنا و دعوته الناس لقبوله - علي علاته - كما هو.

و قال في خطبة أخري (و اياكم و التي اذا أخفيت أو بقت، و ان ذكرت أو ثقت) [3] .

و لعل خطب عمال معاوية و هم من خواصه و أقاربه، و تهديداتهم لا تقل عن خطب و تهديدات معاوية، بل ربما فاقتها. فمعاوية علي أي حال يتكلف الظهور بمظهر الحليم الرشيد، أما هؤلاء الولاة فهم لا يتكلفون ذلك، بل لعل معاوية يدفعهم اليه. فقد خطب عتبة ابن أبي سفيان لما ولاه أخوه معاوية امرة موسم الحج عام 41 ه أي بعد انفراده بالسلطة، و توجه الي الأمة بهذا المقال العنيف: (فلا تمدوا الأعناق الي غيرنا فانها تنقطع دوننا، و رب متمن حتفه في أمنيته. اقبلوا العافية ما قبلناها منكم و فيكم، و اياكم و لو، فقد أتعبت من كا قبلكم و لن تريح من بعدكم) [4] فهو هنا يحذر الناس حتي من مجرد الأمنيات بزوال حكم بني أمية.

كما هدد عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق أهل المدينة لما أصبح واليا عليها و ذلك في خطبة له في مسجد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم و ذلك لمجرد أن أهل المدينة بدأوا ينظرون اليه...! (ما بالكم يا أهل المدينة ترفعون الي أبصاركم، كأنكم تريدون أن تضربونا بسيوفكم؟ أغركم أنكم قتلتم عثمان فوافقتم ثائرنا منا رفيقا؟ قد فني غضبه و بقي حمله. اغتنموا أنفسكم فقد و الله ملكناكم بالشباب المقتبل البعيد الأمل الطويل الأجل حين فرغ به الصغر و دخل في الكبر، حليم حديد، لين شديد، رقيق كثيف رفيق عنيف حين اشتد عظمه و اعتدل جسمه و رمي الدهر ببصره و استقبله بأثره، فهو ان عض نهش، و ان سطافرس، لا يقلقل له الحصي، و لا تقرع له العصا، و لا يمشي السمهي) [5] .

و خطب مهددا أهل مكة لما استعمله أبوه واليا عليها: (فو الله ما نزعنا و لا نزع عنا حتي شرب الدم دما، و أكل اللحم لحما وقرع العظم عظما و عاد الحرام حلالا و أسكت كل ذي حسن عن ضرب مهند عركا عركا و عسفا عسفا و ذخرا ونها، حتي


طابوا عن حقنا نفسا. و الله ما أعطوه عن هوادة و لا رضوا فيه بالقضاء. أصبحوا يقولون: حقنا غلبنا عليه. فجزيناه هذا بهذا و هذا في هذا. يا أهل مكة: أنفسكم أنفسكم و سفهاء كم سفهاء كم! فان معي سوطا نكالا و سيفا و بالا، و كل منصوب علي أهله) [6] .

و لسنا بصدد ايراد كل الشواهد و الخطب و الكلمات التي صدرت عن معاوية و عماله و حاشيته، فلأمر يحتاج الي كتاب مستقل. غير أن الذي نحب أن نؤكد عليه هو أن الناس تدرك أن الحكم الاموي ما كان يتورع عن تنفيذ تهديداته في خضم سعيه المحموم للتشبث بالملك الذي وصل اليه الحكام علي أشلاء الناس و رقابهم.. و عليه فلا يظنن أحد أن تلك التهديدات كانت مجرد كلام لا غير، و أن معاوية و أعوانه لا يهدفون من ورائها سوي تخفيف غلواء أعدائهم. بل أن العنف الأموي كان سمة مميزة لهم أدركها الناس و عرفوا الي أي مدي كان بنو أمية شغوفين به.


پاورقي

[1] البداية و النهاية - ابن کثير 132 - 8.

[2] العقد لفريد 365 - 364 - 5.

[3] المصدر السابق 82 - 4.

[4] الکامل في اللغة و الأدب - المبرد - 312 - 311 - 3.

[5] العقد الفريد - 133 - 132 - 4.

[6] المصدر السابق 134 - 133 - 4.