بازگشت

الاستخلاف الالهي - أمانة لا امتيازات شخصية


لقد طرح القرآن الكريم مسألة الخلافة، لا علي الأسس الجاهلية السابقة، التي استبعدت وجود الخالق الواحد القدير المدبر، و هيمنته علي الكون، و ان كان بعضها لم يستبعد هذه (الفكرة) نهائيا و وضع محلها فكرة أخري تتيح اسباغه غطاء من الشرعية علي حكم الطواغيت الذين حكموا بموجبها كما شاءوا و كيفما شاءوا، فأشركت مع الله قوي و آلهة أخري، أرادت الناس أن يعبدوها هي في محاولة للتقرب الي الله نفسه [1] بل انها أوحت للناس أن هذه الطواغيت هي آلهة أو انصاف آلهة أو من سلالة الآلهة، و ليست مجرد بشر أو أناس عاديين، و ان هذا النسب أو (الانحدار) عن الآلهة يتيح لهم حقوقا و امتيازات لا يمكن بأية حال أن تتاح للبشر العاديين.. لقد وضعت نفسها في مراكز ما كان لأي أحد أن يحلم بالوصول اليها، و أسبغت علي نفسها هالات من العظمة الخارقة التي لا تتاح الا للمتحدرين من سلالات الآلهة، و التاريخ حافل بهذه النماذج. و قد حدثنا القرآن الكريم نفسه عن بعضها.

و قد طرح القرآن الكريم مسألة الخلافة هذه أيضا علي أسس واضحة أرادها أن تكون نواة لتصور اسلامي صحيح عن الله و الكون و الحياة... و لم يطرحها كمسألة عقلية بحتة أو فلسفية قابلة للنقاش و الرد، بل بشكل منسجم مع الفطرة الانسانية و الحاجات و الدوافع البشرية المتعددة.. كما لم يطرحها بمعزل عن النظرة الاسلامية


الشاملة المتكاملة و المؤهلة بشكل تام لقيادة هذه الحياة و توجيهها توجيها صحيحا، يحقق التوازن التام بين الغرائز و الرغبات و العلاقات الاجتماعية العامة بكل أشكالها و بكل ما تحفل به من جوانب متعددة تشمل كل أداء حياتي للناس و تمتد حتي لعلاقات الانسان مع الطبيعة و تعامله معها.

و عندما يستعرض القرآن الكريم هذه الآية الكريمة (و اذ قال ربك للملئكة اني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال اني أعلم ما لا تعلمون) [2] نجد أن مبدأ اقامة مجتمع علي الأرض، قد تقرر من قبل الله - سبحانه - و قد أنبأ به الملائكة، و أنه لم يكن عقابا اليها أن عشنا علي هذه الأرض. أما كيف... و أين... فذلك غيب من الغيب لا يعلمه الا هو - سبحانه - و حسبه أنه أخبرنا بهذا الشكل الواضح المبين.

و هناك ثلاثة عناصر يمكن استخلاصها من العبارة القرآنية:

أولا: الانسان.

ثانيا: الأرض و الطبيعة بوجه عام (و اذ قال ربك للملئكة اني جاعل في الأرض خليفة) فهناك أرض أو طبيعة علي وجه عام، و هناك الانسان الذي يجعله الله سبحانه و تعالي علي الأرض.

ثالثا: العلاقة المعنوية التي تربط الانسان بالأرض و بالطبيعة، و تربط من ناحية أخري، الانسان بأخيه الانسان، هذه العلاقة المعنوية التي سماها القرآن الكريم بالاستخلاف.

و لكن المجتمعات تختلف في طبيعة هذه العلاقة و في كيفية صياغة هذه الطبيعة) [3] و فهم هذه العلاقة، و وضعها علي أساس العمل و الواقع، تشكل أحد أسباب الاختلاف بين المجتمعات المتعددة و بينها و بين بعض الأفراد، منذ أن وجد الانسان علي هذه الأرض عبر القرون.


ان بعض هذه المجتمعات - و خصوصا الحديثة، و القديمة جدا - تقطع العلاقة أساسا مع البعد الالهي و تنفيه نهائيا، و لا تعتقد الا بالفعل الانساني و اللمسات البشرية البحتة، هذه اللمسات المتغيرة، المتأثرة بنزعات الانسان و نزواته و مطامعه و رغباته.

و لا يهمنا أمر هذه المجتمعات المنسلخة عن الاسلام و البعيدة عنه تماما في هذا البحث، غير أن الذي يهمنا ذكره أن الذي يحكم باسم الاسلام، و يدعي تمثيله، لابد أن يتبني التصور الاسلامي الكامل و الواضح - غير المؤول - في الحياة و الحكم علي وجه الخصوص، و أن يعتمد القرآن الكريم أساسا لنظراته و سلوكه.


پاورقي

[1] (و الذين اتخذوا من دونه أوليآء ما نعبدهم الا ليقربونا الي الله زلفي) الزمر: 3.

[2] البقرة: 30.

[3] المدرسة القرآنية - الامام محمد باقر الصدر - دار التعارف للمطبوعات / بيروت / لبنان 1399 ه ص 127 - 126.