بازگشت

التاريخ الاسلامي - تاريخ الحكام لا الشعوب


و لا شك أن تاريخ العرب و المسلمين كان يسلط الأضواء علي الحكام بشكل مركز و ملفت للنظر، و غالبا ما يميل الي تحسين صورهم و تجميلها، اللهم الا اذا كان المؤرخ لا يعيش تحت ظل أحد هؤلاء أو أحفادهم، أو كان يكتب من معسكر مقابل معاد، يقوده حكام آخرون معادون لأولئك.

و لا يكاد من يقرأ التاريخ الاسلامي، يلمس الا صورا باهتة لتفصيلات الحياة الشعبية العامة و همومها و ممارساتها اليومية، يلتقطها من بين بعض السطور و الصفحات، التي تبذل كرما ملحوظا، عند تناول حتي المباذل العادية اليومية و السفاسف و السخافات لبعض الحكام المتمادين في لهوهم و مجونهم و ابتعادهم عن شعوبهم، في غمرة شعورهم (بالحق الالهي الموروث) بحكم الناس و التصرف في


حياتهم و مصائرهم. هذا الشعور الذي أخذوه عن عوائلهم المالكة (العريقة) في اعتلاء ذري السلطة و الملك و الولاية، حتي أنهم في غمرة هذا الشعور، ينسون الله و الناس علي السواء، و لا يرون الا أنفسهم، و لا يكادون يتحملون أقل قدر من النقد أو التوجيه، و حتي المبادأة بالكلام من الآخرين [1] و من هنا جاءت أنماط من (الآداب) التي تعني بكيفية التعامل مع الملوك و السلاطين و أساليب مخاطبتهم و خدمتهم، و وضعت لذلك سلاسل من الكتب و الرسائل، أخذ كتابها يتبارون فيها، بعرض براعاتهم في توجبه الناس لحسن التصرف مع الملوك و كيفية مخاطبتهم و ابداء منتهي الذلة و الخضوع في ذلك، مما لو استثمر بشكل آخر و وجد لتعليم الناس صيغ التعامل مع النفس و مع الله - سبحانه - و مع الآخرين لكان محصلة ذلك ثروة أخلاقية كبيرة قد تقي الناس السقوط و تجعلهم في عافية في دينهم و دنياهم... غير أن وعاظ السلاطين و أدباءهم و مؤرخيهم لم يروا الا ما رآه أسيادهم، فكأن الكون خلق من أجل هؤلاء الأسياد فقط، و أنهم بمنجاة مما قد يتعرض له الناس (العاديون) يوم الحساب [2] و من هنا كانت مصيبة تاريخنا العربي الاسلامي المكروه المعاد و الحافل بالنماذج المتسلطة الشاذة التي لا تقيم وزنا أو اعتبارا لأي شي ء.

و مع أن التاريخ قد طلع علينا بنماذج (نادرة) لحكام جيدين، الا أن ندرة هؤلاء جعلنا نذكرهم كحالات (شاذة) برزت علي سطح التاريخ، و يكاد بعضنا ينبهرون بسلوك أولئك الحكام، الذي كان ينبغي أن يكون أفضل من أدائهم (الممتاز) عن سلوك الآخرين في ظل ظروف اسلامية صحية، فاذا ما استعرضنا حكم الدولة الأموية مثلا - فان سلوك (عمر بن عبدالعزيز) يبدو و كأنه أعجوبة عظيمة، و كأنه يسد الفجوة أو يصلح الشرخ الذي أحدثه من جاء قبله و بعده [3] .

و لا يكاد يتبين من يكتب


عنه أنه انما كان يدين كل السلالة الأموية، باعجابه المتميز بهذا الخليفة الأموي (الراشد) - الفلتة الذي لم يكن مثله مثل الآخرين الذين لم يحصلوا علي ما حصل عليه من من اعجاب و ثناء، فكأن ثناءهم و اعجابهم المتميز، شتيمة للآخرين الذين كان ينبغي أن يكونوا مثله علي الأقل، و مع ذلك تغاضي المؤرخون عن هفواتهم - و ما أكثرها و تناسوا المآسي التي أحدثوها و أسسوا أساسها و بنوا بنيانها.

ان الذي حصل هو أن الحاكم (الاسلامي) حكم بتصور غير اسلامي حمل عفلية غير اسلامية، و ترتب علي ذلك أنماط من السلوك لم تعتمد خط الاسلام بأي حال من الأحوال، مع أنها بررت من قبل فقهاء الدولة و وعاظها و قصاصيها و غيرهم و أبرزت علي أنها هي الشي ء الوحيد المقبول الصحيح.


پاورقي

[1] روي السيوطي في - تاريخ الخلفاء ص 203 أن عبدالملک بن مروان کان (أول من نهي عن الکلام بحضرة الخلفاء و أول من نهي عن الأمر بالمعروف). کما منع الناس من تسميته بعد العطاس... و ربما رأي أنه لا يحتاج - کغيره من الناس رحمة الله...!.

[2] (قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: لما ولي يزيد (بن عبدالملک) قال: سيروا بسيرة عمر بن عبدالعزيز، فأتي بأربعين شيخا فشهدوا له ما علي الخلفاء حساب و لا عذاب) تاريخ الخلفاء - السيوطي ص 229.

[3] فقد روي عن أبي جعفر المنصور قوله في عمر بن عبدالعزيز (... و أما عمر فکان أعور بين عميان...) مقدمة ابن خلدون ص 229.