بازگشت

فهم التاريخ: علي أساس السنن أم الواقع المنحرف


و كما تقبل الكثيرون (واقعهم) دون محاولة لتغييره، أو حتي التساؤل عن أسباب وجوده كما هو، فان كثرين من (المؤرخين) (و الباحثين)، بحكم الالفة التي وجدوا أنفسهم عليها مع وقائعه، و بحكم تقبله من سبقهم من المؤرخين و الباحثين (الآباء) كأمر واقع، لم يحاولوا أن يدرسوا (السنن) الالهية، و الأبعاد التي تنتظمها هذه السنن، و ذلك علي الأسس التي طرحها علينا الاسلام، و هو الدين الذي تدين به أغلبيتنا، و لو من الوجهة الرسمية المظهرية، أو من خلال الشكل المفرغ من المحتوي لهذا الدين.. كما لم يحاولوا تلمس الوقائع و الأحداث التي أدت الي محاولة تحريف تلك السنن، و عرض الأشكال المحرفة، و كأنها هي السنن الطبيعية الموضوعة من قبل الله سبحانه و تعالي لتنظيم عملية الخلافة علي الأرض و تنظيم حياة الانسان بكل جوانبها المتشعبة و أبعادها.

و من هنا شكل الخروج علي(الأمر الواقع) أو (السنن الموضوعية أو الكاذبة)... لكن الواقعة فعلا.. أمرا نشازا، لا يليق بالمسيرات الملوكية النموذجية المزوقة المسددة - رغم أنف الحسود - بالعناية الالهية!! التي استعرضتها كتب التاريخ... و كأن استنكار بعض المواقف (للخلفاء و الملوك) الأوائل، ثورة علي (الخلفاء) الجدد... ان تعكير الصور الأولي (الجميلة النموذجية) التي تحاول النماذج الحديثة ملكية أو رئاسية دستورية! أو مطلقة السير علي خطاها حذو النعل بالنعل أحيانا و رفع


شعاراتها و اعتماد أساليبها و سياساتها... لابد أن يعمل علي تعكير هذه الصور الجميلة الحاضرة.

فعندما تدافع سلطة قائمة، تعتمد أساليب و خطط معاوية (بعد الباسها ثوب العصرية و الحدائقة) في السياسة و الحكم و الدين و الخلافة، حتي و ان لم تتظاهر بذلك، و لم تصرح به علنا، فانها لابد تحاول أن تدعم التوجهات الرامية الي اسباغ الشرعية و الواقعية علي حكم السلاطين الأمويين، و ان ابتعدت المشقة و طال العهد، و لابد أنها تحاول بذلك - عن طريق غير مباشر - الايحاء بصدق و شرعية و سلامة قيامها و توجهاتها هي.

اننا لا نعمل علي مناقشة التاريخ الاسلامي في أجواء و ظروف صحية، و قد نتناول الأمور أو الأشكال الظاهر للحكم في عهد معاوية، فنقرر استنادا الي ما نجد أنفسنا عليه من أوضاع بالغة الانحراف فاقت تلك التي برزت في ذلك العهد - انها كانت أشكالا متطورة عن الأشكال (البسيطة) الأولي التي ظهرت في العهد الاسلامي الأول في عهد الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و من جاء بعده من الخلفاء [1] ، و ربما بررنا لمعاوية و من جاء بعده من (الخلفاء) الأمويين، و حتي العباسيين تصرفاتهم... حتي قبل خلافة معاوية عندما كان واليا علي الشام - و ربما رأينا أنها بما تفوقت - في النواحي الفنية و الادارية علي الأشكال (البسيطة) أولي، بحكم تطور الحياة و اتساع الفتوحات، و بحكم المواجهة الكبيرة للاسلام مع القوي المعادية، الرومانية، و الفارسية و اتباع الديانات المعادية الأخري كاليهودية و المجوسية و الوثنية و غيرها [2] ، و ان الاسلام كان يعرض نفسه كقوة كبيرة منافسة لهذه القوي و الديانات، و ربما اعتقدنا أن التغلب عليها


يستدعي اعتماد أساليب (دنيوية حديثة)، و لا بأس من (الدهاء و السياسة) اللذين اختلط مفهومهما في أذهان الكثيرين منا، حتي أصبحا يمثلان (الحيلة و المكر و الغدر)، و كأننا بذلك نشجع أولئك الذين يريدون اقناعنا بأن الاسلام (بواقعيته)، و صدق توجهاته و مبادئه، قد يكون (خياليا) أو (مثاليا)، لا يصلح لمعالجة كل أمور الحياة و مواجهتها، و خصوصا تلك التي تخص أمور السياسة و الحكم.

و من هنا رأينا التباين الكبير بين سلوك و سياسة معاوية الداعية لمثل هذا النمط الجديد...! و علي الذي مثل الاسلام بكل ما حمله من مبادي ء مستقيمة لا تعرف الالتواء و الانحراف و المكر، و لم يكن علي عليه السلام، ربيب القرآن و ابن الاسلام الذي استوعب كل أفكاره و مبادئه و قيمه، و عمل بها طوال حياته، في نظر (المدرسة الأموية) الا انسانا قليل الحيلة (مثاليا) لا يصلح للحكم في هذه الحياة المتقلبة المتطورة، مع أن نظرة علي عليه السلام للحياة و الحكم و الخلافة و كل شي ء، هي نظرة الاسلام نفسه [3] ، هي نفس نظرة القرآن الكريم و الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم، و معني اتهام علي عليه السلام بقصور النظر في معالجة أمور الحياة و الحكم، هو اتهام علني للاسلام نفسه و الرفض المعتمد لأساسيات و مبادي ء هذا الدين الذي ح حكم الجميع باسمه و رفعوا شعاراته، و لم يروا مانعا من وضع بعض الأحاديث و الشعارات و الأقوال المفتراة لجعله (أكثر واقعية) من الحياة التي رسم خطوطها الاسلام في عهد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و منسجما مع (الحياة) التي أرادوا هم رسم خطوطها و وضع تفصيلاتها و أسسها الجديدة؛ حياة يكونون هم فيها علي سدة الحكم خلفاء و ملوكا و سلاطين و أمراء للمؤمنين... و لا تهم المسميات ما دامت الأهداف تتحقق.


پاورقي

[1] و کما يقول ابن خلدون في (المقدمة): (الخلافة انما هي دين ليست من السياسة الملکية في شي‏ء) ص 262.

[2] فقد روي أبومحمد الأموي، قال (خرج عمر بن الخطاب الي الشام، فرأي معاوية في موکب يتلقاه، و راح اليه في موکب، فقال له عمر: يا معاوية، تروح في موکب و تغدو في مثله، و بلغني أنک تصبح في منزلک و ذوو الحاجات ببابک! قال: يا أميرالمؤمنين، ان العدو بها قريب منا، و لهم عيون و جواسيس، فأرت يا أميرالمؤمنين أن يروا للاسلام عزا، فقال له عمر: ان هذا لکيد رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب؛ فقال معاوية: يا أميرالمؤمنين، مرني بما شئت أصر اليه؛ قال: ويحک! ما ناظرتک في أمر أعيب عليک فيه الا ترکتني ما أدري آمرک أم أنهاک) الطبري 264 - 3 و راجع مقدمة ابن خلدون ص 225.

[3] و قد رد عليه‏السلام علي من اتهمه بذلک قائلا (.. و الله ما معاوية بأدهي مني، و لکنه يغدر و يفجر، و لو لا کراهية الغدر لکنت من أدهي الناس، و لکن لکل غدره فجره، و لکل فجره کفره. و لکل غادر لواء يعرف به يوم القيامة. و الله ما أستغفل بالمکيدة و لا استغمز بالشديدة). نهج‏البلاغة ص 459.