بازگشت

لقد شاء الله ان يراهن سبايا


لقد كان محمد بن الحنفية شقيق الحسين في طليعة اولئك الذين حاولوا مع الحسين (ع) ان لا يستجيب لأهل العراق وأن يبقي بعيداً عنهم وقد ذكره مع من ذكروه بمواقفهم مع أبيه وأخيه وكان قد اشار عليه ان يذهب إلي اليمن أو بعض نواحي البر ولا يذهب إلي الكوفة فوعده الحسين (ع) ان ينظر في الأمر وفي مطلع الفجر من تلك الليلة اخبر ابن الحنفية ان الحسين (ع) قد تهيأ للخروج مع اخوته وبني عمومته ونسائه إلي العراق فأقبل عليه وقد اشرف موكبه علي التحرك فأخذ بزمام ناقته وهو يبكي واقل له: ألم تعدني النظر فيما سألتك فما حداك علي الخروج عاجلا؟ فرد عليه الحسين قائلا: لقد جاءني رسول الله بعد ما فارقتك وقال لي: لقد شاء الله ان يراك قتيلاً فاسترجع ابن الحنفية وقال: إذا كان الأمر كما تقول، فما معني حملك للنساء وأنت تخرج لهذه الغاية، فقال له: لقد شاء الله ان يراهن سبايا.

بهذا الجواب القصير وبهاتين الكلمتين بما لهما من المدلول الواسع وبدون مواربة او تمويه اجاب الحسين اخاه محمد بن الحنفية وعيناه تنهمر بالدموع والالم يحز في قلبه ونفسه، وكما قال ابو عبدالله (ع) لقد شاء الله ان يراهن سبايا كما شاء ان يراه قتيلا موزع الاشلاء هو ومن معه من اسرته وأصحابه علي ثري الطف، لان سبيهن بعده من بلد إلي بلد لم يكن أقل اثرا علي تلك الدولة الجائرة وعلي تلك الاسرة التي تكيد للإسلام من شهادته ان لم يكن أشد وقعاً علي نفوس المسلمين من استشهاده.

لقد كان لسبي النساء والاطفال والطواف بهن من بلد إلي بلد اثراً من اسوأ الآثار علي الأمويين ودولتهم وكان الجزء المتمم للغاية التي ارادها الحسين من نهضته فلقد أثار الاحزان والأشجان في نفوس المسلمين وكشف اسرار الامويين وواقعهم السييء للقاصي والداني وأظهر قبائحهم ومخازيهم للعالم والجاهل وأوضح للمسلمين في كل مكان وزمان ان الأمويين من ألد اعداء الاسلام يبطنون الكفر والالحاد ويتظاهرون بالإسلام رياء ودجلا ونفاقاً. وفي الوقت ذاته فلقد كان سبيهم من جملة الوسائل لنشر الدعوة الي العلويين ومبدأ التشيع لأهل البيت ولعن من شايع وتابع وبايع علي قتل الحسين، وقد أشارت إلي ذلك العقيلة الكبري في قولها ليزيد بن ميسون في مجلسه بقصر الخضراء: فوالله ما فريت إلا جلدك وما حززت إلا لحمك.

لقد حملهم معه وهو علي يقين بأن الأمويين سيطوفون بهم في البلدان إلي ان يصلوا بهن إلي عاصمتهم الشام وسيراهم كل انسان مكشفات الوجوه وفي أيديهم الاغلال والسلاسل وأكثر الناس سيقابلون ذلك بالنقمة علي الأمويين والأسف والحزن لآل بيت نبيهم الذي بعث رحمة للعالمين.

وجاء في كتاب المنتخب ان عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي وعمرو بن الحجاج وضم اليهم الف فارس وأمرهم بايصال السبايا والرؤوس إلي الشام.

ويدعي ابو مخنف انهم مروا بهم بمدينة تكريت وكان اغلب اهلها من النصاري فلما اقتربوا منها وأرادوا دخولها اجتمع القسيسون والرهبان في الكنائس وضربوا النواقيس حزنا علي الحسين وقالوا: انا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت نبيهم فلم يجرأوا علي دخول البلدة وباتوا ليلتهم خارجها في البرية.

وهكذا كانوا يقابلون بالجفاء والاعراض والتوبيخ كلما مروا بدير من الاديرة او بلد من بلاد النصاري، وحينما دخلوا مدينة لينيما وكانت عامرة يومذاك تظاهر اهلها رجالاً ونساء وشيباً وشبانا وهتفوا بالصلاة والسلام علي الحسين وجده وأبيه ولعن الأمويين وأشياعهم وأتباعهم وأخرجوهم من المدينة وتعالي الصراخ من كل جانب، وأرادوا الدخول إلي جهينة من بلاد سورياً فتجمع اهلها لقتالهم فعدلوا عنها واستقبلتهم معرة النعمان بالترحاب بلدة المعري الذي يقول:



أليس قريشكم قتلت حسيناً

وصار علي خـــلافتكم يزيد



وقال: وعلي الافق من دماء الشهيدين علي ونجله شاهدان.

وحينما اشرفوا علي مدينة كفرطاب أغلق أهلها الأبواب في وجوههم فطلبوا منهم الماء ليشربوا فقالوا لهم: والله لا نسقيكم قطرة من الماء بعد ان منعتم الحسين وأصحابه منه، واشتبكوا مع أهالي حمص وكان أهلها يهتفون قائلين: اكفرا بعد ايمان وضلالا بعد هدي، ورشقوهم بالحجارة فقتلوا منهم 26 فارساً ولم تستقبلهم سوي مدينة بعلبك كما جاء في الدمعة الساكبة فدقت الطبول وقدموا لهم الطعام والشراب.

وجاء عن سبط بن الجوزي عن جده انه كان يقول: ليس العجب ان يقتل ابن زياد حسينا وانما العجب كل العجب ان يضرب يزيد ثناياه بالقضيب ويحمل نساءه سبايا علي أعقاب الجمال.

قد رأي الناس في السبايا من الفجيعة اكثر مما رأوه في قتل الحسين وهذا ما اراده الحسين (ع) من الخروج بالنساء والصبيان، ولو لم يخرج بهن لما حصل السبي الذي ساهم مساهمة فعالة في الهدف الذي أراده الحسين من نهضته وهو انهيار تلك الدولة الجائرة.

ولو افترضنا ان السيدة الكبري زينب بنت علي وفاطمة بقيت في المدينة وقتل اخوها في كربلاء فما عساها تصنع وأي عمل تستطيعه غير البكاء والنحيب واقامة العزاء؟ وهل كان يتسني لها الدخول علي ابن زياد لتقول له بحضور حشد من الناس: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد وطهرنا من الرجس تطهيراً انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا ثكلتك امك يا ابن مرجانة، وهل كان بامكانها ان تدخل مجلس يزيد في قصر الخضراء وهو مزهو بملكه وسلطانه وتلقي تلك الخطب التي اعلنت فيها فسقه وفجوره ولعنت فيها آبائه وأجداده وقالت له فيما قالت: أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك اماءك وحرائرك وسوقك بنات رسول الله من بلد إلي بلد، ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك اني لاستصغر قدرك وأستعظم تقريعك، إلي غير ذلك من كلماتها التي كانت تنهال عليه كالصواعق وغيرت اتجاه الرأي العام نحوه ونحو بيته مما اضطره لان يتنصل من تلك الجريمة ويلعن ابن زياد ويحاول ان يحمله مسؤوليتها بعد ان بلغته آثار تلك المأساة في المدن والقري التي مر بها موكب السبايا واللعنات التي كانت تنهال عليه وعلي اهل بيته، وبعد ان رأي الوجوه تغيرت عليه حين وقفت في مجلسه ذلك الموقف التاريخي الذي لا يزال حديث الاجيال بعد ان رأي ذلك وسمع ما احدثه موكب السبايا في نفوس الناس وقلوبهم وبخاصة بعد ان عرف الناس في عاصمته وخارجها ان هذا الموكب لآل الرسول وبناته جعل يتنصل من تلك الجريمة ويحمل أوزارها لابن زياد ومعاونيه. لقد كان باستطاعة يزيد ومعاونيه لو لم يتعرض لأسر النساء والاطفال وسبيهن من بلد إلي بلد ان يموه علي الناس ويقول لهم لقد نازعني الحسين ملكي وقاتلني فقتلته، ولكنه بعد ان صنع مع النساء والاطفال ما صنع من الاسر والسبي والامتهان ضاقت عليه الحجج والذرائع ولم يعد امامه إلا ان يتنصل منها ويضع مسؤوليتها علي غيره حيث لا يجديه التنصل ولا تستره الاعذار وقد أيقن بعدها الكثير من الناس بأنه كان في عمله هذا مسيرا لامويته الحاقدة علي بيت محمد ورسالته، ولو انه ترك النساء والاطفال بعد تلك المجزرة وشأنهم ولم يعاملهم بتلك المعاملة التي لم يعامل المسلمون بها اسري المشركين ونسائهم لم يكن لجريمته كل ذلك الصدي الذي هز العالم الإسلامي بكل فئاته وطبقاته.

لقد كان الحسين يري من وراء الغيب بأن شهادته وحدها لا تعطي النتائج المطلوبة ولا تحقق له جميع اهدافه ما لم تقترن بسبي النساء والاطفال والطواف بهن من بلد إلي بلد ليتاح لشقيقته العقيلة ان تؤدي دورها ورسالتها فقال لاخيه ابن الحنفية وهو يتململ بين يديه باكياً حزيناً: لقد شاء الله ان يراني قتيلاً وأن يري نسائي وأطفالي سبايا وكان علي أمية وحفيدها يزيد بن ميسون لو كانت تملك ذرة من الوفاء والشرف ان تعود إلي الوراء قليلاً لتري ما فعله جد زينب والحسين وبقية العلويين والعلويات مع ابي سفيان وزوجته هند بنت عتبة التي مثلت بعمه الحمزة وأكلت من كبده وكيف عاملهما بالعفو والصفح وجعل لهما ما لم يجعله لاحد من مشركي مكة وطواغيتها، ورحم الله بعض الشعراء الذي ذهب يعاتب الامويين بقوله:



وعـــــليك خــــــزي يـا أميـة دائـم

يـــــبقي كـمـا فـي النـار دام بقـاك



فلقـد حملت مـن الآثام جــــــهالـة

مـا عـــنه ضـاق لمن دعاك دعاك



هلا صفحت عن الحسين ورهطه

صفـح الــوصـي ابـــيـه عـــن أباك



وعــفــفت يـوم الطف عفـة جـــده

المبعـوث يـــوم الفتـح عـن طلقاك



أفهل يــــــد سلبـت امـاءك مثــلما

سلبت كـريمـــــات الطـفـوف يـداك



ام هـل بــــــرزن بفتح مكة حسرا

كنسائـه يــــــوم الطـــفـوف نسـاك



ورحم الله القائل في وصف السبايا:



وزاكـية لـم تلق في النوح مسعـدا

سـوي انهــا بالسوط يزجرها زجر



ومـذعـــورة اضحت وخفـاق قلبها

تكـاد شظـاياه يــــطيـر بهـا الذعــر



ومذهولة من دهشة الخيل ابرزت

عــشيـة لا كـهـــف لـديها ولا خدر



تجـــاذبها أيــــــدي العـدو خمارهـا

فـــتستـر بالأيـدي إذا أعـوز الستر



سرت تتراماهـا العــداة سـوافرات

يـــروح بها مصر ويغـدو بها مصر



تطــوف بها الاعداء فـي كل مهمة

فيـــجـذبهـا قـــفــــــر ويقـذفهـا قفـر