دفن قوم من بني أسد الحسين و أهل بيته و أصحابه
قال المفيد رحمه الله: و لما ارتحل ابن سعد لعنه الله خرج قوم من بني اسد كانوا نزولا بالغاضرية الي الحسين عليه السلام و أصحابه [رحمهم الله] فصلوا عليهم و دفنوا الحسين عليه السلام حيث قبره الان، و دفنوا ابنه علي بن الحسين عليه السلام الاصغر عند رجليه.
و حفروا للشهداء من أهل بيته و أصحابه الذين صرعوا حوله مما يلي رجلي الحسين عليه السلام و جمعوهم و دفنوهم جميعا معا.
و دفنوا العباس بن علي عليهماالسلام في موضعه الذي قتل فيه علي طريق الغاضريه حيث قبره الآن [1] .
و في «البحار» قال: قال ابن شهر اشوب: و كانوا يجدون لأكثرهم قبورا و يرون طيورا بيضا [2] ، انتهي.
و في بعض الكتب المعتبرة عن كتاب «أسرار الشهادات» روي: أنه لما ارتحل عمر بن سعد لعنه الله من كربلاء و ساروا بالسبايا و الرؤوس الي الكوفة، نزل بنوأسد مكانهم و بنوا بيوتهم، و ذهبت نساظؤهم الي الماء اذا هن رأين جثثا حول المسناة، و جثثا يائية عن الفرات، و بينهن جثة قد جللتهم بانوارها و عطرتهم بطيبها، فتصارخن النساء و قلن: هذا و الله؛ جسد الحسين عليه السلام و أهل بيته.
فرجعن الي بيوتهن صارخات و قلين: يا بني أسد! أنتم جلوس في بيوتكم
و هذا الحسين عليه السلام و أهل بيته و أصحابه مجزوزون كالأضاحي علي الرمال، و تسفي عليهم الرياح، فان كنتم علي ما نعهده فيكم من المحبة و الموالات فقوموا و ادفنوا هذه الجثث، فان لم تدفنوها نتولي دفنها بأنفسنا.
فقال بعضهم لبعض: انا نخشي من ابن زياد و ابن سعد لعنهما الله أن تصبحنا خيلهم، فينهبوننا أو يقتلون أحدنا.
فقال كبيرهم: الرأي أن نجعل لنا عينا تنظر الي طريق الكوفة، و نحن نتولي دفنهم.
فقالوا: [ان] هذا الرأي لسديد.
ثم انهم وضعوا لهم عينا، و أقبلوا الي جسد الحسين عليه السلام، و صار لهم بكاء و عويل، ثم انهم اجتهدوا علي أن يحركوه من مكانه فيشقوا له ضريحا فلم يقدروا أن يحركوا عضوا من أعضائه.
فقال كبيرهم: ما ترون؟
قالوا: الرأي أن نجتهد أولا في دفن أهل بيته، ثم نري رأينا فيه.
فقال كبيرهم: كيف يكون لكم؟ و ما فيكم من يعرف من هذا و من هذا، و هم كما ترون جثث بلا رؤوس قد غيرتهم الشمس و التراب من الريح، فلربما نسئل عنهم فما الجواب.
فبينما هم في الكلام، اذ طلع عليهم أعرابي علي متن جواده، فلما رأوه انكمشوا [3] عن تلك الجثث الزواكي.
قال: و أقبل الأعرابي و نزل عن ظهر جواده الي الأرض و صار منحنيا كهيئة الراكع حتي أتي و رمي بنفسه علي جسد الأرض، و جعل يقبله تارة و يشمه
اخري، و قد بل لثامه من دموع عينيه.
ثم رفع رأسه و نظر الينا فقال: ما كان وقوفكم حول هذه الجثث؟
فقالوا: أتينا لنتفرج عليها.
فقال: ما كان هذا قصدكم.
فقالوا: نعم؛ يا أخا العرب! ألان نطلعك علي ما في ضمائرنا، أتينا لندفن جسد الحسين عليه السلام، فلم نقدر أن نحرك عضوا من أعضائه.
ثم اجتهدنا في دفن أهل بيته و ما فينا من يعرف من هذا؟ و من هذا؟ و هم كما تري جثث بلا رؤوس قد غيرتهم الشمس و التراب، فبينما نحن في الكلام اذ طلعت علينا، فخشينا أنك من أصحاب ابن زياد، فانكشفنا عن تلك الجثث.
قال: فقام فخط لنا خطا و قال: احفروا هاهنا، ففعلنا فيها.
فقال: قدموا هذا و أخروا هذا، فوضعنا سبعة عشر جثة بلا رأس.
ثم خط لنا خطا فقال: احفروا هاهنا.
ففعلنا فوضعنا فيها باقي الجثث، و استثني منها جثة واحدة، و أمرنا أن نشق لها ضريحا مما يلي الرأس الشريف، ففعلنا فدفناها.
ثم أقبلنا عليه لنعينه علي جسد الحسين عليه السلام، و اذا هو يقول لنا بخضوع و خشوع: أنا أكفيكم أمره.
فقلنا له: يا أخا العرب! كيف تكفينا أمره و كلما قد اجتهدنا علي أن نحرك عضوا من أعضائه فلم نقدر عليه؟
فبكي بكاء شديدا فقال: معي من يعينني.
ثم انه بسط كفيه تحت ظهره الشريف و قال:
بسم الله و بالله، و في سبيل الله، و علي ملة رسول الله، هذا ما وعدنا الله و رسوله، و صدق الله و رسوله، ما شاء الله لا حول و لا قوة الا بالله العلي العظيم.
ثم أنزله وحده و لم يشرك معه أحدا منا، ثم وضع خده بنحره الشريف و هو يبكي فسمعنا يقول:
طوبي لأرض تضمنت جسدك الشريف، أما الدنيا؛ فبعدك مظلمة، و الاخرة فبنورك مشرقة، أما الحزن فسرمد، والليل فمسهد حتي يختار الله لي دارك التي أنت مقيم بها، فعليك مني السلام يابن رسول الله و رحمة الله و بركاته.
ثم شرج عليه اللبن، و أهال عليه التراب، ثم وضع كفه علي الأرض، و خطه بأنامله و كتب:
هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب عليهماالسلام الذي قتلوه عطشانا غريبا.
ثم التفت الينا و قال: أنظروا هل بقي أحد؟
قالوا: نعم؛ يا أخا العرب! قد بقي بطل مطروح حول المسناة، و حوله جثتان و كلما قد حملنا جانبا منه سقط الاخر لكثرة ضرب السيوف و السهام.
فقال: امضوا بنا اليه.
فمضينا اليه، فلما رآه انكب عليه يقبله و يبكي و يقول:
علي الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم! فعليك مني السلام من شهيد محتسب و رحمة الله و بركاته.
ثم أمرنا أن نشق له ضريحا، ففعلنا، ثم أنزله وحده و لم يشرك معه أحدا منا، ثم شرج عليه اللبن، و أهال عليه التراب، ثم أمرنا بدفن الجثتين حوله، ففعلنا.
ثم مضي الي جواده، فتبعناه و درنا عليه لنسأله عن نفسه، و اذا به يقول:
أما ضريح الحسين عليه السلام فقد علمتم.
و أما الحفيرة الأولي؛ ففيها أهل بيته و الأقرب اليه ولده علي الأكبر عليه السلام.
و أما الحفيرة الثانية؛ ففيها أصحابه.
و أما القبر المفرد؛ فهو حامل لواء الحسين عليه السلام حبيب بن مظاهر.
و أما البطل المطروح حول المسناة؛ فهو العباس بن أميرالمؤمنين عليهماالسلام.
و أما الجثتان؛ فهما من أولاد أميرالمؤمنين عليه السلام، فاذا سألكم سائل فاعلموه.
فقلنا له: يا أخا العرب! نسألك بحق الجسد الذي واريته بنفسك، و ما أشركت معك أحدا منا من أنت؟
فبكي بكاء شديدا، و قال: أنه امامكم علي بن الحسين عليه السلام.
فقلنا له: أنت علي؟
فقال: نعم، فغاب عن أبصارنا [4] .
پاورقي
[1] الارشاد 114 / 2.
[2] البحار: 62 / 45.
[3] في الدمعة الساکبة: انکشفوا.
[4] الدمعة الساکبة: 14 - 11 / 5.