احراق خيامه
قال أبومخنف: فلما ارتفع صياح النساء صاح ابن سعد لعنه الله: يا ويلكم! اكبسوا عليهن الخيام، و أضرموها نارا، فأحرقوها و ما فيها.
فقال رجل منهم: يا ويلك يابن سعد! أما كفاك قتل الحسين عليه السلام و أهل بيته و أنصاره عن حرق أطفاله و نسائه؟ لقد أردت أن يخسف الله بنا الأرض، فتبادروا الي نهب النساء الطاهرات.
قالت زينب بنت أميرالمؤمنين عليهماالسلام: كنت في ذلك الوقت واقفة في الخيمة، اذ دخل رجل أزرق العينين، فأخذ ما كان في الخيمة، و نظر الي علي بن الحسين عليه السلام و هو علي نطع من الأديم و كان مريضا، فجذب النطع من تحته و رماه الي الأرض، والتفت الي و أخذ القناع من رأسي، و نظر الي قرطين كانا في أذني فجعل يعالجهما و هو يبكي حتي نزعهما.
فقلت: تسلبني و أنت تبكي؟!
فقال: أبكي لمصابكم أهل البيت.
فقلت له: قطع الله تعالي يديك و رجليك، و أحرقك بنار الدنيا قبل الاخرة [1] .
و في «المعدن»: و هم شمر لعنه الله بقتل ابن الحسين عليه السلام و هو مريض، فخرجت اليه زينب بنت علي بن أبي طالب عليهماالسلام، فوقعت عليه و قالت: والله؛ لا يقتل حتي أقتل، فكف عنه.
و في «الارشاد»: قال حميد بن مسلم: فوالله؛ لقد كنت أري المرأة من نسائه و أهله و بناته تنازع ثوبها عن ظهرها حتي تغلب عليه فيذهب به منها، ثم انتهينا الي علي بن الحسين عليه السلام و هو منبسط علي فراش، و هو شديد المرض، و مع الشمر جماعة من الرجالة فقالوا له: ألا نقتل هذا العليل؟
فقلت: سبحان الله! أيقتل الصبيان؟ انما هذا صبي و انه لما به، فلم أزل حتي دفعتهم عنه.
و جاء عمر بن سعد لعنه الله فصاحت النساء في وجهه، و بكين فقال لأصحابه: لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء النساء و لا تعرضوا لهذا الغلام المريض.
فسألته النسوة أن يسترجع ما أخذ منهن ليستترن به، فقال: من أخذ من متاعهن شيئا فليرده عليهن.
فوالله؛ ما رد أحد منهم شيئا، فوكل بالفسطاط و البيوت و النساء و علي بن الحسين عليه السلام جماعة مما كان معه، و قال: احفظوهم لئلا يخرج منهم أحد، و لا سيئن اليهم [2] .
و في «المنتخب»: عن فاطمة الصغري قالت: كنت واقفه بباب الخيمة، و أنا أنظر [الي] أبي و أصحابه مجزورين كالأضاحي علي وجه الرمال، و الخيول علي أجسادهم يحول، و أنا افكر ما يصدر علينا بعد أبي من بني امية أيقتلوننا؟! أو يأسروننا؟!
و اذا برجل علي ظهر جواده يسوق النساء بكعب رمحه، و هن يلذن
بعضهن ببعض، و قد أخذ ما عليهن من أسورة و أخمرة و هن يصحن:
وا جداه! وا أبتاه! وا علياه! وا قلة ناصراه! وا حسناه! أما من مجير يجيرنا؟! أما من ذائد يذود عنا؟!
قالت: فطار فؤادي، و ارتعدت فرائصي، و جعلت أجيل بطرفي يمينا و شمالا علي عمتي ام كلثوم عليهاالسلام خشية منه أن يأتيني، فبينما علي هذه الحالة و اذا به قد قصدني فقلت: مالي الا البر.
ففرت منهزمة، و أنا أظن أسلم منه، و اذا به قد تبعني فذهلت خشية منه، و اذا بكعب الرمح بين كتفي، فسقطت علي وجهي، فخرم اذني و أخذ قرطي، و أخذ مقنعتي عن رأسي، و ترك الدماء تسيل علي خدي و رأسي تصهره الشمس.
و ولي راجعا الي الخيم و أنا مغشي علي، و اذا بعمتي عندي تبكي و تقول: قومي نمضي ما أعلم ما صدر علي البنات و أخيك العليل.
فقلت: يا عمتاه! هل من خرقة أستر بها رأسي عن أعين النظار؟!
فقالت: يا بنتاه! و عمتك مثلك.
و اذا برأسها مشكوف و متنها قد اسودت من الضرب، فما رجعنا الي الخيمة الا و قد نهبت و ما فيها و أخي علي بن الحسين عليهماالسلام مكبوب علي وجهه لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع و العطش، فجعلنا نبكي عليه و يبكي علينا [3] .
و في «البحار»: مسندا عن جميل بن مرة قال: أصابوا ابلا في عسكر الحسين عليه السلام يوم قتل، فنحروها و طبخوها فصارت مثل العلقم، فما استطاعوا أن يسوفوا منها شيئا [4] .
و قد قيل: كان أبوعبدالله عليه السلام أعد جملا لنفسه يحمل عليه خيمته و ثقله، و هي راحلته التي ركبها و وعظ ابن سعد لعنه الله و قومه، و كان يوم الواقعة قريبا من المخيم.
فلما صارت الصيحة، و سمع وقع حوافر الخيل و زعفات الرجال أقبل يمشي الي أن صار بين القتلي، فوقف هناك فجعل تارة ينظرهم و تارة ينظر ميمنة و ميسرة، فقصد ثلاثة فوارس ثم ساقوه فتوجه الي منازل الخيم، و كلما أرادوا منعه عن ذلك الوجه لم يقدروا فتبعوه.
فلما وصل الي مكان خيمة أبي عبدالله الحسين عليه السلام فلم يرها التفت الي جهاته، ثم شم تلك البقعة، و جعل يرغو رغاء عظيما، و كلما و كزوه لم ينبعث و زاد رغائه.
ثم برك في موضعه، و كأنه عرف أن الخيمة نهبت، فجعل يضرب برأسه الأرض و يعض بأسنانه صفحتيه و ظهره حتي أدماها.
فلما ضعف عن النهوض نحروه في مكانه و اقتسموا لحمه.
و قيل: وضعوا علي ظهره الخيمة فطاوعهم، ثم جعلوا طريقه علي مصرع الحسين عليه السلام لينظروه ما يفعل.
فلما نظر الي الحسين عليه السلام مطروحا قصده و وقف عليه و جعل يشمه و يرغو، فلما رآه لم ينهض و لم يتحرك برك الي جنبه مظللا له، فلما ضعف من عظم ما لحقه من رغائه و ضرب رأسه علي الأرض نحروه في مكانه و اقتسموا لحمه و طبخوه فلم ينضج.
و قيل: انه صار شعلة فاحترق القدر بما فيه.
پاورقي
[1] مقتل الحسين عليهالسلام: 155 - 154.
[2] الارشاد: 2 / 112 و 113، عنه البحار: 61 / 45 مع اختلاف يسير.
[3] لم أعثر عليه في المنتخب، و أورد العلامة المجلسي رحمه الله في البحار: 60 / 45 و 61 (نحوه).
[4] البحار: 309 / 45.