بازگشت

الغدر والتذبذب


والظاهرة الاخري في المجتمع الكوفي الغدر، فقد كان من خصائصهم التي اشتهروا بها، وقد ضرب بهم المثل فقيل: " اغدر من كوفي " [1] .

كما ضرب المثل بعدم وفائهم فقيل: " الكوفي لا يوفي " [2] .

وقد وصفهم امير المؤمنين (ع) بقوله: " اسود رواغة وثعالب رواغة ". وقال فيهم: " إنهم أناس مجتمعة ابدانهم، مختلفة اهواؤهم وان من فاز بهم فاز بالسهم الاخيب وانه أصبح لا يطمع في نصرتهم


ولا يصدق قولهم [3] .

لقد كان الجانب العملي في حياتهم هو النقلب والتردد والتخاذل، وقد غروا زيد بن علي الثائر العظيم فقالوا له: ان معك مائة الف رجل من أهل الكوفة يضربون دونك بأسيافهم [4] وقد أحصي ديوانه منهم خمسة عشر الفا كانوا قد بايعوه علي النصرة [5] ثم لما اعلن الثورة هبط عددهم الي مائتي وثمانية عشر رجلا [6] وقد نصح داود بن علي زيدا بان لا ينخدع باهل الكوفة فقال له: " يابن عم إن هؤلاء يغرونك من نفسك، اليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك جدك علي بن أبي طالب حتي قتل، والحسن من بعده بايعوه ثم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه من عنقه، وانتهبوا فسطاطه وجرحوه؟ أوليس قد أخرجوا جدك الحسين وحلفوا له باوكد الايمان ثم خذلوه واسلموه ثم لم يرضوا بذلك حتي قتلوه " [7] .

وكانوا ينكثون البيعة بعد البيعة، وقد ألمع الي هذه الظاهرة أعشي همدان الذي كان شاعر ثورة محمد بن الاشعث الذي ثار علي الحجاج يقول داعيا علي اهل الكوفة:



أبي الله إلا أن يتمم نوره

ويطفئ نور الفاسقين فيخمدا



وينزل ذلا بالعراق وأهله

لما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا



وما أحدثوا من بدعة وعظيمة

من القول لم تصعد الي الله مصعدا






وما نكثوا من بيعة بعد بيعة

اذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا [8] .



وقد عرفوا بهذا السمت عند جميع الباحثين، ويري " فلهوزن " انهم مترددون متقلبون وانهم لم يالفوا النظام والطاعة، وان الاخلاص السياسي والعسكري لم يكن معروفا لهم علي الاطلاق، واكد ذلك الباحث " وزتر شنين " يقول: إن من صفاتهم المميزة البارزة الهوائية والتقلب ونقص الثقة بانفسهم [9] .

ولم يكن هذا التذبذب في حياتهم مقتصرا علي العامة، وانما كان شائعا حتي عند رجال الفكر والادب فسراقة الشاعر المعروف وقف في وجه المختار، واشترك في قتاله يوم جبانة السبيع فلما انتصر المختار وقع سراقة أسيرا بين يدي أصحابه فزج به في السجن فاخذ سراقة يستعطفه وينظم القصيد في مدحه، ويذكر مبادئ ثورته ويبالغ في تمجيده فكان مما قاله فيه:



نصرت علي عدوك كل يوم

بكل كتيبة تنعي حسينا



كنصر محمد في يوم بدر

ويوم الشعب اذ لاقي حنينا



فاسجح [10] اذ ملكت فلو ملكنا

لجرنا في الحكومة واعتدينا



تقبل توبة مني فاني

ساشكر إن جعلت النقد دينا



ولما عفا عنه المختار خرج من الكوفة فلم يبعد عنها قليلا حتي أخذ يهجو المختار ويحرض عليه، وقد قال في هجائه:



الا بلغ أبا اسحاق أني

رايت البلق دهما مصمتات






كفرت بوحيكم وجعلت نذرا

علي قتالكم حتي الممات



اري عيني مالم تبصراه

كلانا عالم بالترهات



اذا قالوا: اقول لهم كذبتم

وان خرجوا لبست لهم اداتي [11] .



لقد مضي يصب ثورته وسخريته علي المختار وأصحابه في نفس الوزن الذي نظم فيه قصيدته السابقة، ومن الطبيعي ان هذا التناقض في حياتهم كان ناجما من الاضطراب النفسي، وعدم التوازن في السلوك: ومن غرائب ذلك التناقض أن بعضهم كان يحتاط في أبسط الامور ولا يتحرج من اقتراف أعظم الموبقات، فقد جاء رجل من أهل الكوفة إلي عبد الله بن عمر يستفتيه في دم البعوض يكون علي الثوب اطاهر أم نجس؟ فقال له ابن عمر: - من أين أنت؟ - من أهل العراق. فبهر ابن عمر وراح يقول: انظروا الي هذا يسالني عن دم البعوض!! وقد قتلوا ابن بنت رسول الله (ص) وقد سمعته يقول فيه وفي أخيه: هما ريحانتاي من الدنيا [12] .

ويعزو بعضهم السبب في هذا الاضطراب إلي الظروف السياسية القاسية التي مرت عليهم، فان الحكم الاموي كان قد عاملهم بمنتهي القسوة والشدة فرماهم باقسي الولاة وأشدهم عنفا امثال المغيرة بن شعبة وزياد بن سمية مما جعل الحياة السياسية ضيقة ومتحرجة مما نجم عنه هذا التناقض في السلوك.



پاورقي

[1] الفرق بين الفرق (ص 26) لعبد القاهر البغدادي.

[2] أثار البلاد (ص 167) لزکريا القزويني.

[3] الامامة والسياسة 1 / 238.

[4] تاريخ الطبري 2 / 3 / 1677.

[5] الطبري 2 / 3 / 1685.

[6] الطبري 2 / 3 / 1679.

[7] الطبري 2 / 3 / 1679.

[8] تاريخ الطبري 2 / 1113.

[9] السيادة العربية (ص 74).

[10] السجع: حسن العفو.

[11] أنساب الاشراف 5 / 234، الاخبار الطوال (ص 264).

[12] الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص 94) من مصورات مکتبة الامام أمير المؤمنين.