بازگشت

في ضيافة طوعة


وسار القائد العظيم سليل هاشم وفخر عدنان متلددا في أزقة الكوفة وشوارعها، ومضي هائما علي وجهه في جهة كندة [1] يلتمس دارا لينفق فيها بقية الليل، وقد خلت المدينة من المارة، وعادت كانها واحة موحشة، فقد اسرع كل واحد من جيشه واعوانه، الي داره، واغلق عليه الابواب مخافة ان تعرفه مباحث الامن وعيون ابن زياد بانه كان مع ابن عقيل فتلقي عليه القبض. واحاطت بمسلم تيارات مذهلة من الهموم، وكاد قلبه ان ينفجر من شدة الالم وعظيم الحزن، وقد هاله اجماع القوم علي نكث بيعته وغدرهم به، واستبان له انه ليس في المصر رجل شريف يقوم بضيافته وحمايته أو يدله علي الطريق، فقد كان لا يعرف مسالك البلد وطرقها.. وسار وهو حائر الفكر خائر القوي حتي انتهي الي سيدة يقال لها (طوعة) هي سيدة من في المصر رجالا ونساء بما تملكه من انسانية ونبل وكانت او ولد للاشعث بن قيس اعتقها، فتزوجها اسيد الحضرمي فولدت له بلالا [2] وكانت السيدة واقفة علي الباب تنتظر ابنها، وترتقب طلوعه للاحداث الرهيبة التي حلت في المصر، ولما راها مسلم بادر اليها، فسلم عليها فردت عليه السلام بتثاقل، وقالت له: - ما حاجتك؟


- إسقني ماء فبادرت إلي دارها، وجاءته بالماء، فشرب منه، ثم جلس فارتابت منه فقالت له: - ألم تشرب الماء؟ - بلي اذهب الي اهلك ان مجلسك مجلس ريبة [3] .

وسكت مسلم، فاعادت عليه القوم بالانصراف وهو ساكت، وكررت عليه القوم ثالثا فلم يجبها فذعرت منه، وصاحت به: " سبحان الله!! إني لا احل لك الجلوس علي بابي! " ولما حرمت عليه الجلوس لم يجد بدا من الانصراف فقال لها بصوت خافت حزين النبرات: " ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك الي اجر ومعروف؟ ولعلي اكافئك بعد اليوم ". وشعرت المراة بان الرجل غريب، وانه علي شان كبير، وله مكانة عظمي يستطيع أن يجازيها علي معروف واحسانها فبادرتها قائلة: " ما ذاك؟ " فقال لها وعيناه تفيضان دموعا: " أنا مسلم بن عقيل كذبني القوم وغروني " فقالت المراة في دهشة واكبار: " أنت مسلم بن عقيل " " نعم " [4] .


وانبرت السيدة بكل خضوع وتقدير فسمحت لضيفها الكبير بالدخول إلي منزلها، وقد حازت الشرف والمجد فقد آوت سليل هاشم، وسفير ريحانة رسول الله (ص) وأدخلته في بيت في دارها غير البيت الذي كانت تاوي إليه، وجاءته بالضياء والطعام، فابي أن ياكل، فقد مزق الاسي قلبه الشريف، وايقن بالرزء القاصم، وتمثلت أمامه الاحداث الرهيبة التي سيواجهها، وكان اكثر ما يفكر به كتابه للحسين بالقدوم إلي الكوفة. ولم يمض قليل من الوقت حتي جاء بلال ابن السيدة طوعة، فراي أمه تكثر الدخول والخروج الي ذلك البيت لتقوم برعاية ضيفها، فانكر عليها ذلك، واستراب منه، فسالها عنه، فانكرته فالح عليها فاخبرته بالامر بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق بكتمان الامر.. وطارت نفس الخبيث فرحا وسرورا، وقد أنفق ليله ساهرا يترقب بفارغ الصبر انبثاق نور الصبح ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم.. وقد تنكر هذا الخبيث للاخلاق العربية التي تلزم بقري الضيف وحمايته، فقد كان هذا الخلق سائدا حتي في العصر الجاهلي.. وانا لنتخذ من هذه البادرة مقياسا عاما وشاملا لانهيار القيم الاخلاقية والانسانية في ذلك المجتمع الذي تنكر لجميع العادات والقيم العربية. وعلي أي حال فقد طوي مسلم ليلته حزينا، قد ساورته الهموم، وتوسد الارق، وكان فيما يقول المؤرخون قد قضي شطرا من الليل في عبادة الله ما بين الصلاة وقراءة القران، وقد خفق في بعض الليل فراي عمه امير المؤمنين (ع) فاخبره بسرعة اللحاق به فايقن عند ذلك بدنو الاجل المحتوم منه.



پاورقي

[1] الاخبار الطوال (ص 240).

[2] تاريخ ابن الاثير 3 / 272، وفي الفتوح 5 / 88 انها کانت فيما مضي امراة قيس الکندي، فتزوجها رجل من بعده من حضر موت يقال له أسد بن البطين، فاولدها ولدا يقال له ولدا يقال له أسد.

[3] تذهيب التهذيب 1 / 151 للذهبي.

[4] تاريخ ابن الاثير 3 / 272.