بازگشت

اعتقال هانئ


واسرع الوفد إلي هانئ عشية فوجدوه جالسا علي باب داره فسلموا عليه، وقالوا له: " ما يمنعك من لقاء الامير فانه قد ذكرك؟ وقال: لو أعلم أنه شاك لعدته ". فقال لهم: الشكوي تمنعني. وابطلوا هذا الزعم وقالوا له: إنه قد بلغه انك تجلس كل عشية علي باب دارك، وقد استبطاك، والابطاء والجفاء لا يحتمله السلطان، أقسمنا عليك لما ركبت معنا. وأخذوا يلحون عليه في زيارته فاستجاب لهم علي كره فدعا بثيابه


فلبسها، ودعا ببغلة فركبها فلما كان قريبا من القصر احست نفسه بالشر فعزم علي الانصراف وقال لحسان بن سماء: يابن الاخ إني والله لخائف من هذا الرجل فما تري؟ فقال حسان: يا عم والله ما اتخوف عليك شيئا ولم تجعل علي نفسك سبيلا؟ واخذ القوم يلحون عليه حتي ادخلوه علي ابن مرجانة، فاستقبله بعنف وشراسة، وقال: " أتتك بخائن رجلاه ". وكان شريح الي جانبه، فقال له:



أريد حياته [1] ويريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد



وذعر هانئ فقال له: " ما ذاك أيها الامير؟ " فصاح به الطاغية بعنف " ايه يا هانئ ما هذه الامور التي تتربص في دارك لامير المؤمنين وعامة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فادخلته دارك، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أن ذلك يخفي علي؟ ". فانكر ذلك هانئ وقال: " ما فعلت ذلك وما مسلم عندي " " بلي قد فعلت " وطال النزاع واحتدم الجدال بينهما، فراي ابن زياد ان يحسم النزاع فدعا معقلا الذي جعله عينا عليهم فلما مثل عنده قال لهانئ: " اتعرف هذا؟ " " نعم "


واسقط ما في يدي هانئ، واطرق براسه الي الارض، ولكن سرعان ما سيطرت شجاعته علي الوقف، فانتفض كالاسد، وقال لابن مرجانة: " قد كان الذي بلغك، ولن اضيع يدك عندي [2] تشخص لاهل الشام انت واهل بيتك سالمين باموالكم، فانه جاء حق من هو أحق من حقك وحق صاحبك... " [3] .

فثار ابن زياد وصاح به: " والله لا تفارقني حتي تاتيني به. " وسخر منه هانئ، وانكر عليه قائلا له مقالة الرجل الشريف: " لا آتيك بضيفي ابدا " ولما طال الجدال بينهما انبري الي هانئ مسلم بن عمر الباهلي وهو من خدام السلطة، ولم يكن رجل في المجلس غريب غيره فطلب من ابن زياد أن يختلي بهانئ، ليقنعه فاذن له، فقام وخلا به ناحية بحيث يراهما ابن زياد ويسمع صوتهما اذا علا، وحاول الباهلي اقناع هانئ فحذره من نقمة السلطان وان السلطة لا تنوي السوء بمسلم قائلا: " يا هانئ أنشدك الله ان تقتل نفسك، وتدخل البلاء علي قومك، إن هذا الرجل - يعني مسلما - ابن عم القوم، وليسوا بقاتليه، ولا ضائريه، فادفعه إليه فليس عليك بذلك مخزاة، ولا منقصة انما تدفعه إلي السلطان.. ".


ولم يخنف علي هانئ هذا المنطق الرخيص، فهو يعلم ان السلطة اذا ظفرت بمسلم فسوف تنكل به، ولا تدعه حيا وان ذلك يعود عليه بالعار والخزي ان سلم ضيفه وافد آل محمد فريسة لهم قائلا: " بلي والله علي في ذلك أعظم العار أن يكون مسلم في جواري وضيفي وهو رسول ابن بنت رسول الله (ص) وأنا حي صحيح الساعدين كثير الاعوان، والله لو لم اكن إلا وحدي لما سلمته أبدا ". وحفل هذا الكلام بمنطق الاحرار الذين يهبون حياتهم للمثل العليا ولا يحضعون لما يخل بشرفهم. ولما يئس الباهلي من اقناع هانئ انطلق نحو ابن زياد فقال له: " أيها الامير قد أبي ان يسلم مسلما أو يقتل " [4] .

وصاح الطاغية بهانئ: " أتاتيني به أو لاضربن عنقك " فلم يعبا به هانئ وقال: " اذن تكثر البارقة حولك " فثار الطاغية وانتفخت اوداجه وقال: " والهفا عليك أبا لبارقة تخوفني " [5] .

وصاح بغلامه مهران وقال: خذه، فاخذ بضفيرتي هانئ، وأخذ ابن زياد القضيب فاستعرض به وجهه، وضربه ضربا عنيفا حتي كسر انفه ونثر لحم خديه وجبينه علي لحيته حتي تحطم القضيب وسالت الدماء علي ثيابه، وعمد هانئ الي قائم سيف شرطي محاولا اختطافه ليدافع به عن نفسه فمنعه منه، فصاح بن ابن زياد:


" أحروري احللت بنفسك وحل لنا قتلك ". وأمر ابن زياد باعتقاله في أحد بيوت القصر [6] واندفع حسان بن اسماء بن خارجة وكان ممن أمن هانئا وجاء به الي ابن زياد، وقد خاف من سطوة عشيرته ونقمتم عليه، فانكر عليه ما فعله بهانئ قائلا: " أرسله يا غادر امرتنا ان نجيئك بالرجل فلما اتيناك به هشمت وجهه، وسيلت دماءه وزعمت أنك تقتله ". وغضب منه ابن زياد فاوعز إلي شرطته بتاديبه فلهز وتعتع ثم ترك وأما ابن الاشعث المتملق الحقير فجعل يحرك راسه ويقول ليسمع الطاغية. " قد رضينا بما راي الامير لنا كان أم علينا، انما الامير مؤدب " [7] .

ولا يهم ابن الاشعث ما اقترفه الطاغية من جريمة في سبيل تامين مصالحه ورغباته.


پاورقي

[1] يروي (حياءه) من العطاء.

[2] تاريخ ابن الاثير 3 / 271.

[3] مروج الذهب 3 / 7، سمط النجوم العوالي 3 / 61 تايخ الاسلام للذهبي 2 / 269 وروي کلامه بصورة أخري وهي تخالف ما رواه مشهور المؤرخين.

[4] الفتوح 5 / 83.

[5] البارقة: السيوف التي يلمع بريقها.

[6] تاريخ ابن الاثير 3 / 271.

[7] تاريخ ابن الاثير 3 / 271.