بازگشت

افول دولة الحق


وليس في تاريخ هذا الشرق ولا في غيره حاكم كالامام امير المؤمنين (ع) في عدله ونزاهته، وايثاره للحق علي كل شئ، فقد كان - فيما اجمع عليه المؤرخون - لم يخضع لاية نزعة عاطفية، ولم يستجب لاي هوي مطاع، وانما سار علي الطريق الواضح، والمنهج السليم الذي سلكه رسول الله (ص) فلم يحاب، ولم يداهن في دينه، وتبني النصح الخالص لجميع المسلمين، وقد حاول جاهدا ايام حكومته ان يرفع راية الاسلام، ويحقق مبادئه التي كان منها رفع الحيف والظلم، ومنع الاستغلال، وازالة الفوارق بين ابناء المسلمين وكان من اعظم ما عني به وضع اموال الدولة في مواضعها فلم ينفق اي شئ منها الا علي مرافقها التي عينها الاسلام، وما تاجر بها، ولو اشتري بها العواطف والضمائر - كما كان يفعل معاوية - لما تنكر عليه النفعيون في جيشه كالاشعث بن قيس وغيره من اقطاب الخيانة والعمالة. لقد احتاط في اموال الدولة كاشد ما يكون الاحتياط، واجهد نفسه وحملها من امره رهقا من اجل أن يبسط العدل الاقتصادي بين الناس، يقول عبد الله بن رزين: دخلت علي علي يوم الاضحي فقرب، إلينا حريرة، فقلت له: اصلحك الله لو قربت إلينا من هذا البط فان الله قد اكثر الخير، فقال: يابن رزين سمعت رسول الله (ص) يقول: لا يحل لخليفة من مال الله الا قصعتان قصعة ياكلها هو وأهله، وقصعة يضعها بين يدي الناس [1] .

وقد نقم علي سياسته كل من استسلم لدوافع المادة وشهواتها، فراحوا يعملون جاهدين للاطاحة بحكومته، وتشكيل حكومة تضمن مصالحهم الاقتصادية والسياسية. ومن المؤكد ان الامام كان يعلم كيف يجلب له الطاعة، وكيف يبسط


سلطانه ونفوذه علي اولئك الذين نقموا عليه، ولكن ذلك لا يتم الا بان يداهن في دينه فيوارب ويخادع ويعطي المال في غير حقه، فيكون كبقية عشاق الملك والسلطان، ومن الطبيعي ان الانحراف عن الحق، والمتاجرة بمصالح الامة مما ياباه علي وتاباه مثله العليا، فلا السلطة تغريه ولا اجتماع الناس حوله تزيده عزة، ولا تفرقهم عنه تزيده وحشة كما كان يقول. لقد كان الامام يؤمن ايمانا خالصا بالدين، ويري من الضرورة أن يكون هو المسيطر علي قلوب الناس وتفكيرهم، وان لا يكون هناك اي ظل للمنافع والاهواء، ومما لا شك فيه ان هذا النوع الخالص من الايمان لم يتحقق الا للقلة القليلة من اصحابه كحجر بن عدي ومالك الاشتر وعدي بن حاتم وميثم التمار ونظرائهم ممن تغذوا بهديه، وهم الذين قرؤا القران فاحكموه، وتدبروا الفرض فاقاموه احيوا السنة واماتوا البدعة - علي حد تعبيره - اما الاكثرية الساحقة من جيشه وشعبه فانهم لم يعوا اهدافه ومبادثه، وجهلوا القيم العليا في سياسته المشرقة التي كانت تهدف الي ضمان حقوق المظلومين والمضطهدين. لقد تحرج الامام في سلوكه السياسي فاخضع سياسته العامة للقيم الدينية والخلقية، فبسط الحق بجميع رحابه ومفاهيمه، ولم يعد اي نفوذ للاقوياء، ولا سلطان للرأسمالية القرشية التي كانت تعتبر السواد بستانا لقريش. وقد هبت القوي المنحرفة عن الحق في وجه الامام فاشعلت نار الحرب، واوقفت مسيرة الامام في تطبيق العدل الاجتماعي، ووضعت السدود والحواجز في طريقه، وقد وقف الامام العظيم ملتاعا حزينا، قد احتوشته ذئاب الاثرة والاستغلال، وتناهب مشاعره الاحداث المفزعة التي تواكبت عليه، وكان من افجعها الفتن الداخلية التي كانت تثيرها الخوارج الذين كانوا يعيشون معه وهم يجاهرونه بالعداء، وينشرون الفتن والاختلاف، ويتربصون


الفرص للخروج عليه.


پاورقي

[1] جواهر المطالب في مناقب الامام ابي الحسن (ص 43) لشمس الدين ابو البرکات، من مصورات مکتبة الامام امير المؤمنين.