بازگشت

اجتماع الحكمين


وانتهت المدة التي عينها الفريقان للتحكيم، وقد استرد معاوية قواه التي فقدها ايام صفين، واستحكم أمره، وقد ارسل الي الامام يطلب منه الوفاء بالتحكيم، وانما سارع الي ذلك لعلمه بما مني به جيش الامام من الفرقة والخلاف، ثم هو علي علم بان النتيجة ستكون من صالحه لان المنتخب للتحكيم هو ابو موسي الاشعري، وهو علي علم بانحرافه عن الامام واشخص الامام أبا موسي الاشعري الي التحكيم، وارسل اربعمائة من اصحابه جعل عليهم شريح بن هاني، وعبد الله بن عباس يصلي بهم، والتقي


الحكمان الضالان علي حد تعبير النبي (ص) [1] في دومة الجندل او في اذرح، ويقول المؤرخون إن ابن العاص لم يفتح الحديث مع الاشعري ثلاثة ايام، فقد افرد له مكانا خاصا، وجعل يقدم له اطائب الطعام والشراب حتي استبطنه وارشاه، ولما ايقن انه صار العوبة بيده اخذ يضفي عليه النعوت الحسنة والالقاب الكريمة حتي ملك مشاعره وعواطفه فقد قال له: " يا أبا موسي انك شيخ اصحاب محمد (ص) وذو فضلها، وذو سابقتها، وقد تري ما وقعت فيه هذه الامة من الفتنة العمياء التي لا بقاء معها، فهل لك ان تكون ميمون هذه الامة فيحقن الله بك دماءها فانه يقول: في نفس واحدة ومن احياها فكانما احيا الناس جميعا، فكيف بمن احيا هذا الخلق كله. " ومتي كان الاشعري شيخ صحابة النبي (ص) ومن ذوي الفضائل والسوابق في الاسلام؟ وانخدع الاشعري بهذه الكلمات المعسولة فطفق يسال ابن العاص عن سبل الاصلاح وحقن الدماء، فاجابه ابن العاص: " تخلع انت علي بن ابي طالب، وأخلع أنا معاوية بن أبي سفيان ونختار لهذه الامة رجلا لم يحضر في شئ من الفتنة، ولم يغمس يده فيها.. " فبادر ابو موسي يسال عن الرجل الذي لم ينغمس في الفتنة قائلا:


" من يكون ذلك؟ " وكان ابن العاص قد عرف ميول الاشعري واتجاهاته نحو عبد الله ابن عمر فقال: " انه عبد الله بن عمر " وسر الاشعري بذلك واندفع يطلب منه العهود علي الالتزام بما قاله " كيف لي بالوثيقة منك؟ " " يا أبا موسي الا بذكر الله تطمئن القلوب، خذ من العهود والمواثيق حتي ترضي... " ولم يبق يمينا الا اقسم علي الالتزام بما قاله، وايقن الاشعري بمقالة ابن العاص فاجابه بالرضا والقبول وعينا وقتا خاصا يذيعان فيه ما اتفقا عليه. واقبلت الساعة الرهيبة التي كانت تنتظرها الجماهير بفارغ الصبر، واقبل الماكر ابن العاص مع زميله الاشعري الي منصة الخطابة ليعلنا للناس ما اتفقا عليه، واتجه ابن العاص نحو الاشعري فقال له: - قم فاخطب الناس يا أبا موسي. - قم انت فاخطبهم. وراح ابن العاص يخادع الاشعري قائلا له: " سبحان الله أنا أتقدمك!! وانت شيخ اصحاب رسول الله، والله لا فعلت ذلك أبدا.. " داخل الاشعري العجب بنفسه من هذه الالقاب الفخمة التي اضفاها عليه ابن النابغة، وطلب الخامل المخدوع من ابن العاص الايمان أن يفي له بما قال، فاقسم له علي الوفاء بما اتفقا عليه، [2] ولم تخف هذه


الخديعة علي حبر الامة عبد الله بن عباس فالتفت الي الاشعري يحذره من مكيدة ابن العاص قائلا له: " ويحك والله إني لاظنه قد خدعك، إن اتفقتما علي أمر فقدمه فليتكلم بذلك الامر قبلك، ثم تكلم انت بعده، فان عمرو رجل غادر لا آمن من أن يكون قد اعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فاذا قمت في الناس خالفك.. " ولم يعن الغبي بابن العباس، وانما راح يشتد نحو منصة الخطابة، فلما استوي عليها حمد الله واثني عليه، وصلي علي النبي (ص) ثم قال: " ايها الناس إنا قد نظرنا في أمرنا فراينا أقرب ما يحضرنا من الامن والصلاح ولم الشعث، وحقن الدماء، وجمع الالفة، خلعنا عليا ومعاوية وقد خلعت عليا كما خلعت عمامتي هذه " واهوي الي عمامته فخلعها " واستخلفنا رجلا قد صحب رسول الله (ص) بنفسه، وصحب ابوه النبي (ص) فبرز في سابقته، وهو عبد الله بن عمر... " [3] .

اف للزمان وتعسا للدهر أن يتحكم في المسلمين أمثال هؤلاء الصعاليك الذين ران الجهل علي قلوبهم. لقد عزل الاشعري الامام امير المؤمنين حكيم هذه الامة، ورائد العدالة الكبري في الارض، الذي طوق الدين بعبقرياته ومواهبه، لقد جعل الاشعري قيادة الامة بيد عبد الله بن عمر وهو لا يحسن طلاق زوجته - علي حد تعبير أبيه - انها من مهازل الزمن التي تمثلت علي مسرح الحياة العامة في ذلك العصر الذي اخمدت فيه اضواء العقل، وراح الانسان يسير خلف رغباته وميوله. وعلي أي حال فقد انبري الخاتل الماكر ابن العاص الي منصة الخطابة


فحمد الله واثني عليه ثم قال: " أيها الناس ان أبا موسي عبد الله بن قيس خلع عليا، وأخرجه من هذا الامر الذي يطلب، وهو اعلم به، الا واني خلعت عليا معه، وإثبت معاوية علي وعليكم، وان أبا موسي، قد كتب في الصحيفة [4] .

ان عثمان قد قتل مظلوما شهيدا وان لوليه أن يطلب بدمه حيث كان، وقد صحب معاوية رسول الله بنفسه، وصحب ابوه النبي (ص) ثم اخذ يثني علي معاوية، ويصفه بما هو ليس اهلا له ثم قال: هو الخليفة علينا وله طاعتنا وبيعتنا علي الطلب بدم عثمان.. " [5] .

واشتد الاشعري نحو ابن العاص بعد ما غور به ونكث عهده فصاح به. " مالك عليك لعنة الله! ما انت إلا كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث وان تنركه يلهث " فزجره ابن العاص: " لكنك مثل الحمار يحمل أسفارا ". وصدق كل منهما في وصف صاحبه، لقد جر هذا التحكيم الي الامة كثيرا من المصاعب والفتن، وأخلد لها الخطوب والويلات. وماج العراقيون في الفتنة، وأيقنوا بضلال ما أقدموا عليه، وأنهزم الاشعري نحو مكة يصحب معه العار والخزي له ولذريته [6] ، فقد غدر في


المسلمين غدرة منكرة، وأكثر شعراء ذلك العصر في هجاء الكوفيين وهجاء الاشعري يقول أيمن بن خريم الاسدي:



لو كان للقوم راي يعصمون به

من الضلال رموكم بابن عباس



لله در أبيه أيما رجل

ما مثله لفصال الخطب في الناس



لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن

لم يدر ما ضرب اخماس لاسداس



ان يخل عمرو به يقذفه في لجج

يهوي يه النجم تيسا بين أتياس



أبلغ لديك عليا غير عاتبه

قول امرئ لا يري بالحق من باس



ما الاشعري بمامون أبا حسن

فاعلم هديت وليس العجز كالراس



فاصدم بصاحبك الادني زعيمهم

ان ابن عمك عباس هو الآسي [7] .



وظفر معاوية بالنصر، فقد عاد إليه أهل الشام يسلمون عليه بامرة المؤمنين، وأما الامام أمير المؤمنين (ع) فقد أغرق جيشه في الفتنة والفرقة والخلاف، فجعل بعضهم يتبرأ من بعض، وقد شاع فيهم الخلاف، وعرفوا وبال ما جنت أيديهم، فخطب الامام الحسن خطابا مسهبا دعاهم فيه الي الالفة والمودة، وكذلك خطب فيهم عبد الله بن عباس، وعبد الله ابن جعفر، وقد شجبا في خطابهما التحكيم ودعا الناس الي الطاعة ونبذ الخلاف [8] وقد استجاب لهم بعض الناس، وأصر آخرون علي التمرد والعصيان. ولما انتهي خبر التحكيم الي الامام بلغ به الحزن أقصاه فجمع الناس وخطبهم خطابا مؤثرا صعد فيه آلامه وأحزانه علي مخالفة أوامره في ايقاف


القتال، والاستجابة لنداء عدوه الذي قضي فيه علي ما احرزوه من الفتح والنصر، يقول (ع): " الحمد لله وإن أتي الدهر بالخطب الفادح، والحدث الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله، وان محمدا عبده ورسوله. اما بعد. فان مخالفة الناصح الشفيق المجرب تورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين، وهذه الحكومة بامري، ونخلت لكم رايي لو يطاع لقصير راي. ولكنكم أبيتم الا ما أردتم: فكنت وأياكم كما قال أخو هوازن.



أمرتهم أمري بمنعرج اللوي

فلم يستبينوا الرشد الا ضحي الغد



الا ان الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما وارتايا الراي من قبل انفسنهما فاماتا ما أحيا القران وأحييا ما أمات القران. ثم اختانا في حكمهما فكلاهما لا يرشد ولا يسدد فبرئ الله منها ورسوله وصالح المؤمنين فاستعدوا للجهاد، وتاهبوا للمسير، واصبحوا في معسكركم يوم الاثنين ان شاء الله.. " [9] .

وتهيات قواته المسلحة الي السفر في الموعد الذي ضربه لها، وكتب الي أهل البصرة يدعوهم الي نصرته فالتحقت به كتائب من الجيش.


پاورقي

[1] روي سويد بن غفلة قال: کنت مع أبي موسي الاشعري علي شاطئ الفرات في خلافة عثمان فروي لي خبرا عن رسول الله (ص) قال: سمعته يقول: ان بني اسرائيل اختلفوا فلم يزل الاختلاف بينهم حتي بعثوا حکمين ضالين ضلا واضلا من اتبعهما، ولا تنفک أمر أمتي حتي يبعثوا حکمين يضلان، ويضلان من اتبعهما، فقلت له: احذر يا أبا موسي أن تکون أحدهما، قال: فخلع قميصه وقال: ابرا الي الله من ذلک کما يرا قميصي من هذا.. جاء ذلک في شرح النهج 13 / 315.

[2] العقد الفريد 3 / 315.

[3] الطبري 6 / 39.

[4] وهي غير الصحيفة التي تم عليها ايقاف القتال.

[5] أنساب الاشراف ج 1 ق 1 الامامة والسياسة 1 / 143.

[6] لقد کان الناس يحقرون ذرية ابي موسي، ويسخرون منهم فقد سمع الفرزدق أبا بردة بن ابي موسي يقول: کيف لا اتبختر، وأنا ابن أحد الحکمين، فرد عليه الفرزدق قائلا: اما احدهما فمائق وأما الاخر ففاسق فکن ابن أيهما شئت، جاء ذلک في شرح النهج 19 / 353، ونظر رجل الي بعض ولد أبي موسي يختال في مشيته فقال الا ترون مشيته؟! کان أباه خدع عمرو بن العاص.

[7] حياة الامام الحسن 1 / 529.

[8] أنساب الاشراف ج 1 ق 1.

[9] انساب الاشراف ج 1 ق 1.