بازگشت

سعيد بن العاص


واسند عثمان ولاية الكوفة إلي سعيد بن العاص فولاه أمر هذا القطر


العظيم بعد عزله الوليد بن عقبة لاقترافه جريمة شرب الخمر، وقد استقبل الكوفيون واليهم الجديد بالكراهية وعدم الرضا لانه كان شابا مترفا متهورا لا يتحرج من المنكر، يقول المؤرخون: إنه قال مرة في رمضان من رأي منكم الهلال؟ فقام الصحابي العظيم هاشم بن عتبة المرقال فقال: " أنا رأيته " فلم يعن به وإنما وجه اليه منكر القول وأقساه قائلا: " بعينك هذه العوراء رأيته؟! ". فالتاع هاشم وانبري منكر عليه قائلا: " تعيرني بعيني، وانما فقئت في سبيل الله، وكانت عينه أصيبت يوم اليرموك ". وأصبح هاشم مفطرا، عملا بقول رسول الله (ص): " صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته " وفطر الناس لافطاره، وانتهي الخبر إلي سعيد فارسل اليه وضربه ضربا مبرحا، وحرق داره، وقد أثار ذلك حفائظ النفوس ونقم عليه الناس لانه اعتدي بغير حق علي علم من أعلام الجهاد في الاسلام [1] .

وكان سعيد في منتهي الطيش والغرور فقد أثر عنه أنه قال: " انما السواد - يعني سواد الكوفة - بستان لقريش " وأثار ذلك عليه موجة من الغضب والاستياء فقد اندفع زعيم الاحرار مالك الاشتر رادا عليه قائلا: " أتجعل مراكز رماحنا، وما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك؟ والله لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه ". وهكذا اتخذ الحكم المنحرف الذي فرض علي الامة بقوة السيوف خيرات المجتمع بستانا لقريش التي ناهضت الاسلام وناجزته الحرب. وانضم قراء المصر وفقهاؤهم إلي الزعيم مالك مؤيدين مقالته ومنكرين


علي الوالي غروره وطيشه، وغضب مدير شرطة سعيد فرد عليهم ردا غليظا، فبادروا اليه فضربوه ضربا عنيفا حتي أغمي عليه، وقاموا من مجلسه وأطلقوا ألسنتهم بنقده، وذكر مثالب عثمان وسيئاته، وأخذوا يذيعون سيئات قريش وجرائم بني امية، ورفع سعيد من فوره رسالة إلي عثمان أخبره فيها بشأن القوم، فاجابه عثمان بان ينفيهم إلي الشام، وكتب في نفس الوقت رسالة إلي معاوية يأمره فيها باستصلاحهم. ولم يرتكب هؤلاء الاحرار اثما أو فسادا، ولم يقترفوا جرما حتي يقابلوا بالاضطهاد والنفي، وانما نقدوا أميرهم لانه قال غير الحق، وشذ عن الطريق القويم، وقد منح الاسلام الحرية التامة لنقد الحاكمين والمسؤولين اذا شذوا في سلوكهم، وجاروا علي رعيتهم، وجعل هذه الحرية حقا ذاتيا لكل مواطن، والزم الدولة برعايتها وتوفيرها للناس. وعلي أي حال فقد قامت السلطة باخراجهم بالعنف والقهر من أوطانهم وأرسلتهم إلي الشام فتلقاهم معاوية، وأمر بانزالهم في كنيسة، وأجري لهم بعض الرزق، وجعل يناظرهم، ويعظهم، ويحبذ لهم مسالمة السلطة والرضا بسياستها إلا انهم لم يستجيبوا له، وأنكروا عليه ما قاله سعيد: من أن السواد بستان لقريش، معلنين علي أنه لا ميزة للقابل القرشية علي غيرها حتي تختص بخيرات البلاد. ولما يئس منهم معاوية كتب إلي عثمان يستعفيه من بقائهم في الشام خوفا من أن يفسدوا أهلها عليه، فاعفاه عثمان، وأمره بردهم إلي الكوفة فلما عادوا اليها انطلقت السنتهم بالنقد في ذكر مثالب الامويين ومساوئهم ورفع سعيد أمرهم إلي عثمان ثانيا فأمره بنفيهم عن وطنهم إلي حمص والجزيرة، فأخرجهم من وطنهم إلي حمص، فقابلهم واليها عبد الرحمان ابن خالد بأعنف القول وأقساه، وسامهم سوء العذاب وأمعن في ارهاقهم


والتنكيل بهم، فكان فيما يقول الرواة: اذا ركب أمر بهم ليسيروا حول ركابه مبالغة في اذلالهم واحتقارهم، ولما رأوا تلك القسوة أظهروا الطاعة والاذعان للسلطة، وكتب إلي عثمان في شأنهم، فاجابه إلي ذلك، وأمره بردهم إلي الكوفة، ولما نزحوا عن حمص جعلوا طريقهم إلي يثرب لمقابلة عثمان، فلما انتهوا اليها قابلوه، وعرضوا عليه ما عانوه من التنكيل والارهاق، ولم يلبثوا قليلا حتي فاجأهم سعيد، فقد جاء في مهمة رسمية إلي عثمان فوجد القوم عنده يشكونه، ويسألونه عزله، إلا انه أعرض عنهم ولم يستجب لهم، وألزمهم بالانصياع إلي أوامر واليهم، كما أمره أن يرجع ويزاول عمله، وقفل القوم قبله راجعين إلي مصرهم، وقد سبقوه اليه، فقاموا باحتلاله، وأقسموا أن لا يدخله سعيد ما حملوا سيوفهم، ثم خرجوا في جماعة مسلحين بقيادة الزعيم مالك الاشتر حتي انتهوا إلي (الجرعة) فرابطوا فيها ليحولوا بين سعيد وبين دخوله إلي الكوفة، وأقبل سعيد فقاموا اليه، وعنفوه اشد العنف، وحرموا عليه دخول مصرهم، فولي منهزما إلي عثمان يشكوهم اليه، ولم يجد عثمان بدا من عزله، فعزله وولي غيره مكانه علي كره منه [2] .

وعلي أي حال فان عثمان قد نكل بالناقدين لسعيد بن العاص، وهم قراء المصر وفقهاؤه: ونفاهم عن أوطانهم من أجل شاب طائش متهور لانه من اسرته وذويه، وكان ذلك من موجبات النقمة عليه لا في الكوفة وانما في جميع الاقاليم الاسلامية التي انتهي اليها أمرهم.


پاورقي

[1] حياة الامام الحسن 1 / 240.

[2] تاريخ الطبري 5 / 85، تاريخ أبي الفداء 1 / 68، الانساب 5 / 39 - 43.