بازگشت

عملية الانتخاب


ولما مضي عمر إلي ربه، ودفن في مقره الاخير أحاط البوليس بأعضاء الشوري فالزمهم بالاجتماع، واختيار حاكم للمسلمين من بينهم تنفيذا لوصية عمر، فاجتمعوا في بيت المال، وقيل في بيت مسرور بن مخرمة، وقد أشرف علي الانتخاب الامام الحسن، و عبد الله بن عباس، وبادر المغيرة ابن شعبة وعمرو بن العاص فجلسا في عتبة الباب، فنهزهما سعد وقال لهما: " تريدان أن تقولا: حضرنا، وكنا في أهل الشوري؟ " [1] .

ودلت هذه البادرة علي مدي التنافس، والاحقاد فيما بين القوم فقد ضن سعد علي المغيرة وابن العاص بالحضور خشية أن يقولا للناس: كنا من أهل الشوري. وتداول الاعضاء فيما بينهم الحديث عمن هو أحق بالامر وأولي به، وكثر الصخب والجدل، وانبري اليهم الامام أمير المؤمنين (ع) فحذرهم مغبة ما يحدث من الفتن والفساد إن استجابوا لعواطفهم، ولم يؤثروا مصلحة الامة فقال: " لم يسرع أحد قبلي إلي دعوة حق، وصلة رحم، وعائدة كرم فاسمعوا قولي، وعووا منطقي، عسي أن تروا هذا الامر من بعد هذا اليوم تنتظي فيه السيوف، وتخان فيه العهود حتي يكون بعضكم أئمة لاهل الضلال، وشيعة لاهل الجهالة... " [2] .

انهم لو سمعوا قوله، ووعوا منطقه لصانوا الامة من التيارات الجارفة


وعادوا عليها بالخير العميم، ولكنهم انطلفوا وراء شهوات الملك والسلطان وتحقق ما تنبأ به الامام، فلم يمض قليل من الوقت حتي انتضت السيوف وانتشرت الحروب، وسادت الفتن والاهواء، وصار بعضهم أئمة لاهل الضلالة، وشيعة لاهل الجهالة. وعم الجدل بين القوم فلم ينتهوا إلي غاية مريحة فانفضت الجلسة علي غير طائل، وجماهير الشعب تنتظر بفارغ الصبر النتيجة الحاسمة، وعقد الاجتماع مرة اخري الا أنه باء بالفشل، فأشرف عليهم أبوطلحة الانصاري وهو يتهدد ويتوعد، قائلا: " لا والذي نفس عمر بيده! لا أزيدكم علي الايام الثلاثة. التي أمرتم... ". واقترب اليوم الثالث، وهو آخر موعد للقوم فانعقد الاجتماع وبدت فجأة الاندفاعات القبلية التي شذت عن مصلحة الامة، فقد انبري طلحة فوهب حق لعثمان، وانما فعل ذلك استجابة لعواطفه المترعة بالكراهية للامام لانه نافس ابن عمه أبا بكر علي الخلافة، واندفع الزبير فوهب حقه للامام لانه تربطه به رحم ماسة، وانطلق سعد فوهب حقه لابن عمه عبد الرحمان بن عوف، تقوية لجانبه، وتعزيزا لمركزه. وكان رأي عبد الرحمان هو الفيصل، وجانبه هو المرموق لان عمر قد وضع ثقته به، وأناط به أمر الشوري إلا انه كان ضعيف الشخصية هزيل الارادة لا قدرة له علي تحمل مسؤولية الحكم فاجمع رأيه علي أن يرشح غيره للخلافة، وكان له هوي مع عثمان، لانه صهره، وقد استشار عامة القرشيين في الامر فزهدوه في علي، وحرضوه علي انتخاب عثمان لانه يحقق أطماعهم، ورغباتهم.


وحلت الساعة الرهيبة التي غيرت مجري التاريخ، فقال عبد الرحمان لابن اخته: - يا مسور، اذهب فادع عليا، وعثمان. - بأيهما أبدأ؟ - بأيهما شئت. وانطلق مسور فدعاهما، وازدحم المهاجرون والانصار وسائر الناس في الجامع، فانبري عبد الرحمان، فعرض عليهم الامر وقال: " أيها الناس، إن الناس قد اجتمعوا علي أن يرجع أهل الامصار إلي أمصارهم فاشيروا علي ". فتقدم اليه الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر فأشار عليه بما يضمن لامة سلامتها ويصونها من الفرقة والاختلاف قائلا: " إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليا ". وانطلق المقداد فأيد مقالة عمار قائلا، " صدق عمار، إن بايعت عليا سمعنا وأطعنا ". واندفعت القوي الباغية، والحاقدة علي الاسلام، وهي تشجب مقالة عمار والمقداد، وتدعوا إلي ترشيح عثمان عميد الامويين، وقد هتف عبد الله بن أبي سرح فخاطب ابن عوف قائلا: " ان أردت ان لا تختلف قريش فبايع عثمان ". واندفع عبد الله بن أبي ربيعة فأيد مقالة زميله قائلا: " ان بايعت عثمان سمعنا وأطعنا ". وانبري الصحابي العظيم عمار بن ياسر فرد علي ابن أبي سرح قائلا: " متي كنت تنصح للمسلمين؟ ". وصدق عمار فمتي كان ابن أبي سرح ينصح المسلمين أو يرجو وقارا


للاسلام فقد كان من اعدي الناس إلي رسول الله (ص) وقد امر بقتله بعد فتح مكة ولو كان متعلقا بأستار الكعبة [3] انه لو كان هناك أي منطق أو حساب لاقصي هذا الدعي وأمثاله من التدخل في شؤون المسلمين فان بني امية وسائر القبائل القرشية يجب ان تكون في ذيل القافلة ولا يعني بأمرها لانها هي التي ناجزت النبي (ص) وحرضت عليه القبائل وكادته وما دخلت في الاسلام الا بعد الخوف من حد السيوف، فكيف يمسح لها ان تفرض رأيها، ويؤول اليها امر المسلمين؟ واحتدم الجدال بين الهاشميين والامويين، فانبري عمار بن ياسر، وهو يدعو لصالح المسلمين قائلا: " أيها الناس ان الله اكرمنا بنبيه، واعزنا بدينه فإلي متي تصرفون هذا الامر عن أهل بيت نبيكم؟!! ". لقد كان منطق عمار حافلا بروح الاسلام وهديه فان قريشا وسائر العرب انما أعزها الله بدينه، وأسعدها برسوله، فهو مصدر عز العرب وشرفهم، وكان الواجب عليهم أن يقابلوه بالمعروف والاحسان، فلا يخرجون هذا الامر عن أهله الذين هم سدنه علمه، وخزنه وحيه، انه ليس من العدل في شئ ان يمنعوا جاهدين في قهرهم واذلالهم. وانبري رجل من مخزوم فقطع علي عمار كلامه قائلا له: " لقد عدوت طورك يابن سمية، وما أنت وتأمير قريش لانفسها؟!! ". ولم يدخل أي بصيص من نور الاسلام وهدية في قلب هذا المخزومي، فقد راح يندد بعمار فنسبه لامه سمية وهي ممن يعتز بها الاسلام، ويفخر بنضالها المشرق، وتضحيتها الفذة، فهي وزوجها ياسر، وابنهما البار في


طليعة القوي الخيرة المؤسسة للاسلام، وقد عانت في سبيله أقسي ألوان المحن والخطوب. ان امر الخلافة لجميع المسلمين يشترك فيه ابن سمية وغيره من الضعفاء الذين أعزهم الله بدينه، وليس لطغاة قريش أي حق في التدخل بشؤون المسلمين لو كان هناك منطق او حساب. وكثر النزاع واحتدم الجدال بين القوي الاسلامية وبين القرشيين فخاف سعد ان يفوت الامر من القوم فالتفت إلي ابن عمه عبد الرحمن قائلا له: " يا عبد الرحمن، افرغ من امرك قبل أن يفتتن الناس ". والتفت عبد الرحمن إلي الامام " هل أنت مبايعي علي كتاب الله وسنة نبيه، وفعل أبي بكر وعمر؟ " ورمقه الامام بطرفه، وعرف غايته، فاجابه بمنطق الاسلام، ومنطق الاحرار: " بل علي كتاب الله، وسنة رسوله، واجتهاد رأيي.. ". ان مصدر التشريع في الاسلام انما هو كتاب الله وسنة نبيه، فعلي ضوئها تعالج مشاكل الرعية، ويسير نظام الدولة، وليس فعل أبي بكر وعمر من مصادر التشريع الاسلامي، علي انهما اختلفا أشد الاختلاف في النظم السياسية، فقد انتهج أبوبكر في سياسته المالية منهجا أقرب إلي المساواة من سياسة عمر، فانه الغي المساواة في العطاء، وأوجد نظام الطبقية، فقدم بعض المسلمين علي بعض، وشرع حرمة المتعتين متعة الحج ومتعة النساء في حين انهما كانتا مشروعتين في عهد رسول الله (ص) وأبي بكر، وكانت له آراؤه الخاصة في كثير من المجالات التشريعية.


فعلي أي المنهجين يسير ابن أبي طالب ربيب الوحي ورائد العدالة الاجتماعية في الاسلام. ان ابن عوف يعلم علما جازما لا يخامره ادني شك ان الامام لو تقلد زمام الحكم لطبق شريعة الله في الارض، وساس المسلمين سياسة قوامها العدل الخالص، والحق المحض، ولم يمنح الاسر القرشية أي جهة من الامتياز وساوي بينها وبين غيرها في جميع الحقوق والواجبات، فتفوت بذلك مصالح هذه الطبقة التي جنت علي الاسلام، وجرت للمسلمين أعظم الويلات والخطوب. إن الامام لو وافق علي الالتزام بما شرط عليه ابن عوف لما أمكنه أن يطبق أي منهج من مناهج سياسته الهادفة إلي نشر العدل بين الناس، ومن المقطوع به ان الامام حتي لو التزم بهذا الشرط ظاهرا لحالت قريش بينه وبين تطبيق أهدافه، ولم تدع له أي مجال لتحقيق العدالة الاجتماعية، ويكون خروجها عليه مشروعا لانه لم يف لها بوعده. وعلي أي حال فان عبد الرحمن لما يئس من تغيير اتجاه الامام انبري إلي عثمان فشرط عليه ذلك فسارع إلي اجابته، وأظهر استعداده الكامل لكل ما شرطه عليه وفيما أحسب أن هناك اتفاقا سريا بينهما أحيط بكثير من الكتمان، فانه بأي حال لا ينتخب الامام وان اجابه إلي ما شرطه عليه، وانما طلب منه البيعة لاجل التغطية علي مخططاته فاستعمل هذه المناورة السياسية، ويري بعض المؤرخين من الافرنج إلي أن عبد الرحمن استعمل طريقة المداورة والانتهازية، ولم يترك الانتخاب يجري حرا. يقول المؤرخون: إن عبد الرحمن بادر إلي عثمان فصفق بكفه علي يده وقال له: " اللهم اني قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان... ".


ووقعت هذه المبادرة كصاعقة علي القوي الخيرة التي جهدت علي أن يسود حكم الله بين المسلمين، وانطلق الامام صوب ابن عوف فخاطبه قائلا: " والله ما فعلتها إلا لانك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه دق الله بينكما عطر منشم.. " [4] .

وألقي الامام الاضواء علي اختيار عبد الرحمان لعثمان من انه لم يكن من صالح الامة وانما كان وليد الاطماع والاهواء السياسية فقد رجا ابن عوف أن يكون خليفة من بعد عثمان، واتجه الامام صوب القرشيين فقال لهم: " ليس هو أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان علي ما تصفون ". ولذع منطق الامام ابن عوف فراح يهدده. " يا علي لا تجعل علي نفسك سبيلا ". وغادر الامام المظلوم المهتضم قاعة الاجتماع، وهو يقول: " سيبلغ الكتاب أجله ". وانطلق ابن الاسلام البار عمار بن ياسر فخاطب ابن عوف: " يا عبد الرحمان، أما والله لقد تركته، وانه من الذين يقضون بالحق، وبه كانوا يعدلون ". وكان المقداد ممن ذابت نفسه أسي وحزنا، وراح يقول:


" تا الله ما رأيت مثل ما اتي إلي أهل هذا البيت بعد نبيهم!! واعجبا لقريش!! لقد تركت رجلا ما أقول: ولا اعلم أن أحدا أقضي بالعدل، ولا اعلم، ولا اتقي منه لو أجد اعوانا ". وقطع عليه عبد الرحمان كلامه وراح يحذره من الفتنة قائلا: " اتق الله يا مقداد فاني خائف عليك الفتنة ". وانتهت بذلك مأساة الشوري التي اخلدت للمسلمين الفتن وألقتهم في شر عظيم، فلم يرع في تأسيسها وتنفيذها بهذا الشكل أي حق للاسرة النبوية، وانما عمد القوم بشكل سافر إلي الغض من شأنها، ومعاملتها معاملة عادية اتسمت بالحقد والكراهية لها، وضاعت بذلك وصايا النبي (ص) في حقها، ولم يعن بما قاله في شأنها: من أنها عديلة الكتاب العظيم، أو كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق غرق وهوي. لقد شاهد الامام الحسين (ع) وهو في غضارة العمر فصول هذه الشوري، وما أعقبته من انتشار الاطماع السياسية، والتهالك علي السلطة بشكل فظيع، مما أدي إلي تشكيل الاحزاب، والتسلح باسباب القوة لاجل الفوز بالحكم والظفر بخيراته يقول الشاعر:



إني أري فتنة هاجت مراجلها

والملك بعد أبي ليل لمن غلبا



لقد أصبح الحكم هو الامل المنشود والحلم الذي يداعب جميع الفئات يقول الجهيشاري: لما توفي يزيد بن عبد الملك وأفضي الامر إلي هشام أتاه الخبر وهو في ضيعة له مع جماعة فلما قرأ الكتاب سجد وسجد من كان معه من أصحابه خلا سعيد فانه لم يسجد فأنكر عليه هشام وقال له: - لم لم تسجد؟ - علام أسجد؟ اعلي ان كنت معنا فطرت إلي السماء. - إنا طيرناك معنا.


- الآن طاب السجود. وسجد معهم [5] ودلت هذه البادرة وامثالها مما ذكره المؤرخون علي تهالك ذلك المجتمع علي الحكم لا من اجل أن يتخذ وسيلة للصلاح الاجتماعي وتطوير حياة الامة حسب ما يريده الاسلام، وانما من أجل الاطماع والاستعلاء علي الناس. وعلي أي حال فان تلك الاحداث المؤلمة قد باعدت ما بين القوم وبين دينهم، وكان لها الاثر الايجابي في هضم العترة الطاهرة، وتعاقب الخطوب المفزعة عليها، ومن بينها كارثة كربلاء الخالدة في دنيا الاحزان، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة الشيخين.



پاورقي

[1] تاريخ ابن الاثير.

[2] نهج البلاغة محمد عبده 25 / 31.

[3] الاستيعاب 2 / 375.

[4] منشم - بکسر الشين - اسم امرأة بمکة کانت عطارة، وکانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها، فاذا فعلوا ذلک کثرت القتلي فيما بينهم، فکان يقال: " أشأم من عطر منشم " جاء ذلک في صحاح الجوهري 5 / 2041، وقد استجاب الله دعاء الامام فکانت بين عثمان و عبد الرحمن أشد المنافرة والخصومة، وقد أوصي ابن عوف ان لا يصلي عليه عثمان بعد موته.

[5] الوزراء والکتاب (ص 59).