بازگشت

عهده لعمر


ولم يطل سلطان أبي بكر فقد ألمت به الامراض بعد مضي ما يزيد علي سنتين من حكمه وقد صمم علي تقليد زميله عمر بن الخطاب شؤون الخلافة إلا ان ذلك لاقي معارضة الكثيرين من الصحابة فقد انبري اليه طلحة قائلا: " ماذا تقول لربك: وقد وليت علينا فظا غليظا؟ تفرق منه النفوس وتنفض منه القلوب " [1] .

وسكت أبوبكر فاندفع طلحة يوالي انكاره عليه قائلا: " يا خليفة رسول الله، إنا كنا لا نحتمل شراسته، وأنت حي تأخذ علي يديه، فكيف يكون حالنا معه، وأنت ميت وهو الخليفة... " [2] .


وبادر أكثر المهاجرين والانصار إلي أبي يعلنون كراهيتهم لخلافة عمر فقد قالوا له: " نراك استخلفت علينا عمر، وقد عرفته وعلمت بوائقه فينا، وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا وليت عنا، وأنت لاق الله عزوجل فسائلك، فما أنت قائل؟ فأجابهم أبوبكر: " لئن سألني الله لاقولن استخلفت عليهم خيرهم في نفسي... " [3] .

وكان الاجدر به فيما يقول المحققون أن يستجبب لعواطف الاكثرية الساحقة من المسلمين فلا يولي عليهم أحدا إلا بعد أخذ رضاهم واتفاق الكلمة عليه، أو يستشير أهل الحل والعقد عملا بقاعده الشوري إلا أنه استحباب لعواطفه الخاصة المترعة بالحب لعمر، وقد طلب من معقيب الدوسي أن يخبره عن رأي المسلمين في ذلك فقال له: " ما يقول الناس في استخلافي عمر؟ ". " كرهه قوم ورضيه آخرون... ". " الذينكرهوه أكثر أم الذين رضوه؟ ". " بل الذين كرهوه " [4] .

ومع علمه بأن اكثرية الشعب كانت ناقمة عليه في هذا الامر فكيف فرضه عليهم، ولم يمنحهم الحرية في انتخاب من شاؤا لرئاسة الحكم. وعلي أي حال فقد لازم عمر أبا بكر في مرضه لا يفارقه خوفا من التأثير عليه، وكان يعزز مقالته ورأيه في انتخابه له قائلا:


" أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله (ص) " [5] .

وطلب أبوبكر من عثمان بن عفان أن يكتب للناس عهده في عمر، وكتب عثمان ما أملاه عليه، وهذا نصه: " هذا ما عهد أبوبكر بن أبي قحافة، آخر عهده في الدنيا نازحا عنها. وأول عهده بالآخرة داخلا فيها، اني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فان تروه عدل فيكم فذلك ظني به، ورجائي فيه، وإن بدل وغير فالخير أردت ولا أعلم الغيب " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون... " [6] .

ووقع أبوبكر الكتاب فتناوله عمر، وانطلق به يهرول إلي الجامع ليقرأه علي الناس فانبري اليه رجل وقد انكر عليه ما هو فيه قائلا: " ما في الكتاب يا أبا حفص؟ ". فنفي عمر علمه بما فيه إلا أنه أكد التزامه بما جاء فيه قائلا: " لا أدري، ولكني أول من سمع وأطاع... ". فرمقه الرجل، وقد علم واقعه قائلا: ولكني والله أدري ما فيه، أمرته عام أول، وأمرك العام... " [7] .

وانبري عمر إلي الجامع فقرأه علي الناس، وبذلك تم له الامر بسهولة من دون منازع إلا أن ذلك قد ترك أعمق الاسي في نفس الامام أمير المؤمنين عليه السلام فراح بعد سنين يدلي بما انطوت عليه نفسه من الشجون يقول عليه السلام في خطبته الشقشقية: " فصبرت وفي العين قذي، وفي الحلق شجا أري تراثي نهبا، حتي


مضي الاول لسبيله، فادلي بها إلي فلان - يعني عمر - بعده، ثم تمثل بقول الاعشي:



شتان ما يومي علي كورها

ويوم حيان أخي جابر



فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته اذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها... " [8] .

وكشف هذه الكلمات عن مدي أحزانه وآلامه علي ضياع حقه الذي تناهبته الرجال، فقد وضعوه في تيم مرة وفي عدي تارة اخري، وتناسوا جهاده المشرق في نصرة الاسلام، وما له من المكانة القريبة من رسول الله صلي الله عليه وآله. وعلي أي حال فقد تناهبت الامراض جسم أبي بكر، ودفعته إلي النهاية المحتومة، التي ينتهي اليها كل انسان، وقد راح يبدي ندمه وأساه علي ما فرط تجاه حبيبة رسول الله وبضعته قائلا: " وددت أني لم اكشف بيت فاطمة، ولو انهم اغلقوه علي الحرب ". كما انه ود لو سأل رسول الله عن ميراث العمة وبنت الاخ، وثقل حاله فدخلت عليه بنته عائشة تعوده فلما رأته يعالج سكرات الموت أخذت تتمثل بقول الشاعر:



لعمرك ما يغني الثراء عن الفتي

اذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر



فغضب أبوبكر وقال لها: ولكن قولي: " وجاءت سكرت الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد " [9] ولم يلبث قليلا حتي وافاه الاجل المحتوم، وانبري صاحبه عمر إلي القيام بشؤون جنازته، فغسله، وصلي عليه وواراه في بيت النبي (ص) وألصق لحده بلحده، ويذهب النقاد من الشيعة إلي أن


هذا البيت إن كان من تركة النبي (ص) فانه لم يؤثر عنه انه وهبه لعائشة فلابد أن يكون خاضعا لقواعد الميراث حسبما تراه العترة الطاهرة في تركة النبي (ص) وعلي هذا الرأي فلا يحل دفنه فيه إلا بعد الاذن منها، ولا موضوعية لاذن عائشة لانها انما ترث من البناء لا من الارض حسب ما ذكره الفقهاء في ميراث الزوجة وإن كان البيت خاضعا لعملية التأميم حسبما يرويه أبوبكر عن النبي (ص) من أن الانبياء لا يورثون أي شئ من متع الدنيا وانما يورثون الكتاب والحكمة، وما تركوه فهو صدقة لعموم المسلمين، فلابد إذن من ارضاء جماعة المسلمين في دفنه فيه، ولم يتحقق كل ذلك بصورة مؤكدة: وعلي أي حال فقد انتهت خلافة أبي بكر القصيرة الامد، وقد حفلت بأحداث رهيبة، وكان من أخطرها فيما يقول المحققون معاملة العترة الطاهرة كاشخاص عاديين قد جرد عنها اطار التقديس والتعظيم الذي اضفاه النبي صلي الله عليه وآله عليها، وقد منيت بكثير من الضيم والجهد، فقد كانت تري انها أحق بمقام النبي (ص) وأولي بمكانته من غيرها، وقد أدي نزاعها مع أبي بكر إلي شيوع الاختلاف واذاعة الفتنة والفرقة بين المسلمين، كما أدي إلي امعان الحكومات التي تلت حكومة الخلفاء إلي ظلمهم واستعمال البطش والقسوة معهم، ولعل أقسي ما عانوه من الكوارث هي فاجعة كربلا التي لم ترع فيها أي حق لرسول الله (ص) في عترته وابنائه.


پاورقي

[1] شرح النهج 1 / 55.

[2] شرح النهج 6 / 343 ط دار احياء الکتب العربية.

[3] الامامة والسياسة 1 / 19.

[4] الآداب الشرعية والمنح المرعية 1 / 49.

[5] تاريخ الطبري 4 / 52.

[6] الامامة والسياسة 1 / 19، طبقات ابن سعد، تاريخ الطبري.

[7] الامامة والسياسة 1 / 20.

[8] مروج الذهب 2 / 195.

[9] تاريخ ابن الاثير 2 / 290.