بازگشت

مآسي الزهراء


وطافت موجات قاسية من الهموم والاحزان ببضعة النبي (ص) ووديعته فقد احتل الاسي قلبها الرقيق المعذب، وغشيتها سحب قاتمة من الكدر واللوعة علي فقد أبيها الذي كان اعز عندها من الحياة، فكانت تزور جدثه الطاهر فتطوف حوله، وهي حيري ذاهلة اللب، منهدة الكيان فتلقي بنفسها عليه، وتأخذ حفنة من ترابه الطاهر فتضعه علي عينيها ووجهها وتطيل من شمه، وتقبيله، فتجد في نفسها راحة، وهي تبكي امر البكاء واشجاه، وتقول بصوت حزين النبرات:



ماذا علي من شم تربة أحمد

أن لا يشم مدي الزمان غواليا



صبت علي مصائب لو أنها

صبت علي الايام صرن لياليا



قل للمغيب تحت أطباق الثري

إن كنت تسمع صرختي وندائيا



قد كنت ذات حمي بظل محمد

لا اختشي ضيما وكان جماليا



فاليوم أخضع للذليل وأتقي

ضيمي وادفع ظالمي بردائيا



فاذا بكت قمرية في ليلها

شجنا علي غصن بكيت صباحيا



فلاجعلن الحزن بعدك مؤنسي

ولاجعلن الدمع فيك وشاحيا [1] .



وتصور هذه الابيات أروع تصوير وأصدقه للوعة الزهراء وشجونها


فقد مثلت أحزانها المرهقة علي فراق أبيها الذي أخلصت له في الحب كما أخلص لها أبوها، ولو صبت مصائبها الموجعة علي الايام لخلعت زينتها... كما صورت هذه الابيات الحزينة مدي منعتها وعزتها أيام أبيها فقد كانت من أعز نساء المسلمين شأنا واعلاهن مكانة، ولكنها بعدما فقدت أباها تنكر لها القوم، وأجمعوا علي الغض من شأنها، حتي صارت تخضع للذليل، وتتقي ممن ظلمها بردائها اذ لم يكن هناك من يحميها، ولم تكن تأوي إلي ركن شديد. وقد خلدت إلي البكاء والحزن حتي عدت من البكائين الخمس [2] .

الذين مثلوا الحزن والاسي في هذه الحياة، وقد بلغ من عظيم وجدها علي أبيها أن أنس بن مالك استأذن عليها ليعزيها بمصابها الاليم، وكان ممن وسد رسول الله (ص) في مثواه الاخير فقالت له: " أنس بن مالك؟ ". نعم يا بنت رسول الله ". فقالت له وهي تلفظ قطعا من قلبها المذاب: " كيف طابت نفوسكم أن تحثوا التراب علي رسول الله (ص) " [3] .

وقطع أنس كلامه، وطاش لبه، وخرج وهو يذرف الدموع قد غرق في عالم من الاسي والشجون. وألحت بضعة رسول الله (ص) علي ابن عمها أمير المؤمنين أن يريها القميص الذي غسل فيه أباها رسول الله (ص) فجاء به اليها فاخذته بلهفة وهي توسعه تقبيلا وشما لانها تجد فيه رائحة أبيها الذي غاب في مثواه، ووضعته علي عينيها، وقلبها الزاكي يتقطع من الم الحزن والاسي


حتي غشي عليها وخلدت وديعة النبي (ص) إلي البكاء في وضح النهار وفي غلس الليل وظل شبح أبيها يتابعها في كل فترة م حياتها القصيرة الامد، وقد ثقل علي القوم فيما يقول المؤرخون، بكاؤها فشكوها إلي الامام أمير المؤمنين (ع) وطلبوا منه ان تجعل لبكائها وقتا خاصا لانهم لا يهجعون ولا يستريحون فكلمها أمير المؤمنين (ع) فأجابته إلي ذلك فكانت في نهارها تخرج خارج المدينة وتصحب معها ولديها الحسن والحسين فتجلس تحت شجرة من أراك، فتستظل تحتها، وتبكي أباها طيلة النهار فاذا أوشكت الشمس أن تغرب تقدمها الحسنان مع أبيهما ورجعوا قافلين إلي الدار التي خيم عليها الحزن والاسي، وعمد القوم إلي تلك الشجرة فقطعوها فكانت تبكي في حر الشمس، فقام أمير المؤمنين (ع) فبني لها بيتا أسماه " بيت الاحزان " ظل رمزا لاساها علي ممر العصور، ونسب إلي قائم آل محمد (ص) انه قال فيه:



ام تراني اتخذت لا وعلاها

بعد بيت الاحزان بيت سرور



وكانت حبيبة رسول الله تمكث نهارها في ذلك البيت الحزين تناجي أباها وتبكيه أمر البكاء وأقساه، واذا جاء الليل أقبل علي فأرجعها إلي الدار مع ولديها الحسن والحسين. وأثر الحزن المرهق ببضعة النبي وريحانته حتي فتكت بها الامراض فلازمت فراشها، ولم تتمكن من النهوض والقيام فبادرت السيدات من نساء المسلمين إلي عيادتها فقلن لها: " كيف أصبحت من علتك يا بنت رسول الله؟ ". فرمقتهن بطرفها، واجابتهن بصوت خافت مشفوع بالحزن والحسرات قائلة: " أجدني كارهة لدنياكن، مسرورة لفراقكن، ألقي الله ورسوله


بحسراتكن، فما حفظ لي الحق، ولا رعيت من الذمة، ولا قبلت الوصية ولا عرفت الحرمة... " [4] .

وخيم علي النسوة صمت رهيب، وأنعكس علي وجوههن حزن شديد وغامت عيونهن بالدموع، وانطلقن إلي بيوتهن بخطي ثقيلة، فعرضن علي أزواجهن كلمات زهراء الرسول، فكانت وقعها عليهم أشد من ضربات السيوف، فقد عرفوا مدي تقصيرهم تجاه وديعة نبيهم وهرعن بعض امهات المؤمنين إلي عيادتها فقلن لها: " يا بنت رسول الله... صيري لنا في حضور غسلك حظا ". فلم تجبهن إلي ذلك وقالت: " أتردن أن تقلن في كما قلتن في امي لا حاجة لي في حضوركن ".


پاورقي

[1] المناقب لابن شهراشوب 2 / 131.

[2] البکائون الخمس: آدم ويعقوب، ويوسف، وعلي بن الحسين وفاطمة، جاء ذلک في بحار الانوار 10 / 44.

[3] سنن ابن ماجة (ص 18) المواهب اللدنية للقسطلاني 2 / 382.

[4] تاريخ اليعقوبي 2 / 95.