ايثار العباس الأكبر بن أميرالمؤمنين
ايثار العباس للحسين عليهماالسلام بالنوعين معا، فانه آثره بنفسه و علي نفسه (أما ايثاره بنفسه)، فمستبين من تضحية نفسه أمامه، و قد صرحت بهذا أشعاره التي منها:
نفسي لنفس الطاهر الطهر وقا
(و أما ايثاره) للحسين عليه السلام علي نفسه، فذاك حين رمي الماء من يده و قال: لا ذقت الماء و ابن رسول الله عطشان، مع كونه قد أشرف علي التلف من الظمأ، و قد نطقت بذلك أشعاره كقوله:
يا نفس من بعد الحسين هوني
و بعده لا كنت أن تكوني
هذا حسين شارب المنون
و تشربين بارد المعين
قد صرح عليه السلام في هذا الشعر، أنه آثر أخاه الحسين عليه السلام، ليس علي سبيل الارتكاز الجبلي، و لا بداعي الطبع الفطري، و لا طاوع فيه الخلق الغريزي، و انما كان ذلك عن فقه
في الدين، و علم بما للمؤثر علي نفسه من عظيم الأجر، و بالأخص، اذا كان الايثار للامام المفترض الطاعة، و ذلك حيث يقول فيه:
و ليس هذا من شعار ديني
و لا فعال صادق اليقين
لأن شعائر هذا الدين المواساة و الايثار، حسبما سمعت من مدح القرآن للمؤثرين، و ما ورد من ايثار رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و أهل بيته، و فضلاء الصحابة. و الصادق اليقين، في أن الله يجزي بالعمل الصالح، و يثيب علي الاحسان، فانه يحصل له القطع بأن من آثر الحسين عليه السلام بنفسه، أو علي نفسه، كان كمن آثر رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم. و قد قال في الحديث المتفق عليه: (حسين مني و أنا من حسين).
فالمواسي له ينال أعظم درجة الأجر عند الله، فاذا حاد عن سنن الايثار له، و انحرف عن جادة المواساة، فلا يشبه فعله فعل الصادق اليقين، بأن ايثار العترة الطاهرة و مواساة السلالة المطهرة من أفضل الطاعات و أجل المقربات عند الله، بل هي مما افترض الله تعالي علي الأمة القيام بها، بقوله تعالي: «قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربي». و قوله صلي الله عليه و آله و سلم في حديث الثقلين: (احفظوني في أهل بيتي). فأبوالفضل أدي هذه الفريضة كما قد أدي سائر الفرائض [1] [...]
[...] و قد كثر مدحه بهذا الايثار، فقال الحاج محمد رضا الأزري البغدادي من قصيدة تأتي في مراثيه:
و أبت نقيبته الزكية ريها
و حشا ابن فاطمة يشب ضرامها
و قال الحاج هاشم الكعبي من قصيدة:
حتي حوي بحرها الطامي فراتهم
الجاري ببحر من الهندي ملتطم
فكف كفا من الورد المباح و في
أحشائه ضرم ناهيك من ضرم
و هل تري صادقا دعوي أخوته
روي حشا و أخوه في الهجير ظمي
حتي ملا مطمئن الجأش قربته
ثم انثني مستهلا قاصد الحرم
[...] كتبت في هذه العصور و ريقات، شحنت بالواهيات، و ملئت بالتجاسر العظيم علي أكابر أهل البيت دعيت باسم التنزيه. و كتبنا ردا عليها في رسالة مفردة تركنا النقل عنها، و من مواضيعها الممجوجة قوله في هذه المسألة، ان نقض العباس من يده الماء، فهو حرام، و لا حجة فيه؛ لعدم العصمة، و في الحقيقة أن كل من جهل شيئا فانه الصواب فيه، و لا شك أن الفقيه لا يسمي فقيها حتي يدرس الحقائق درسا متقنا، و الوقوف علي التاريخ و أخبار الناس لا قيمة له عند التحقيق، فيجب علي المؤلف عند الخوض في الأحكام و تحري الافتاء، أن يعرف قواعد الافتاء اجتهادا لا تقليدا، و قد فات مؤلف التنزيه أدلة الحكم في الايثار (أولا): الأدلة السمعية الواردة في رجحانه، كما ذكرنا ذلك من الآيات و الروايات الواردة عن أهل الشرع و مؤسسيه محمد المصطفي و أهل بيته عليهم السلام، فان الايثار يكون بها راجحا، بل من المستحبات المؤكدة، و فعل المعصوم و تقريره كقوله حجة. (ثانيا): ذهاب المشهور من الفقهاء الي أن المسنون يثبت بالضعيف و المرسل؛ للتسامح في أدلة السنن و هذه المسألة عليها اعتماد صاحب التنزيه، فالغاء الأحاديث الصحيحة، بل المتفق عليها عند الشيعة، المتضمنة لفعل المعصوم و تقريره، تجاسر؛ و رفع اليد عن ظواهر الآيات الصريحة غباوة.
نعم ان جمود الطبع، و يبوسة الدماغ، حكمت في نفسه اعتقاد أن كل عمل ضاهي أعمال عرب الجاهلية، فهو مما يجب أن تمحقه شريعة الاسلام، و تمحو رسومه و معالمه، و هذا هو الظن الخاطئ، و الاجتهاد مقابل النص.
فان الدور الجاهلي له أعمال تنقسم بمجموعها الي قسمين: قسم مخل عند العقل و ماس بكرامة الانسانية، و مخالف للنواميس الالهية، و قوانين النظام الرباني، الذي هو أساس الحرية، و مبدء المدنية. فمن ذلك الظلم و الكفر، و استباحة الفروج و الأموال، و استعباد الأحرار، و أمثال ذلك، فهذا الذي قاومته الشريعة الاسلامية و محت معالمه و رسومه.
و قسم كان علي جانب عظيم من مراعاة الحقوق الانسانية، و تقرير الحالة الاجتماعية
في احترام الحرم، و الأشهر الحرم، و مقاومة الاستعباد الجبروتي، و التسلط الجبار، و المحاماة عن الشرف، و بذل الأموال للوفد و الأضياف، و هذا ما يسمي سخاء و شجاعة، فذاك و شبهه من الأمور التي أكدتها الشريعة الاسلامية، و قررت العمل به ودعت اليه، و حثت عليه، لما فيه من المصاح الكبري للانسان. أما من حيث الشجاعة، فان بها تحفظ الأوطان و الأموال، و تمنع الأعراض، و بها يقاوم الاستعباد الصارم، و الاستعمار الجائر، و ينتشر العدل في البسيطة، و تحقن الدماء. و قد قال الله تعالي: «و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله» [2] .
المظفر، بطل العلقمي، 360 - 359، 358، 357 - 356 / 2
پاورقي
[1] [ثم ذکر کلام الطريحي، کما ذکرناه، / 391] .
[2] سورة الحج / 40.