بازگشت

برير و أصحابه يأتون بالماء ولكن العطاشي يحرمون من شربه


فنذكر الآن ما ذكره الشيخ الأجل «ابن نما» أي ما روي عن سكينة بنت الحسين عليه السلام قالت:

عز ماؤنا في التاسع من المحرم، حتي كظنا العطش و قد نفذ الماء كله، و خلت الأواني، و جفت القرب التي فيها الماء، حتي يبست من شدة الحر، فلما أمسي المساء عطشت أنا، و بعض فتياتنا، فقمت الي عمتي زينب، أخبرها بعطشنا لعلها ادخرت لنا ماء، فوجدتها في خيمتها و في حجرها أخي الرضيع، و هي تارة تقوم، و تارة تقعد، و هو يضطرب اضطراب السمكة في الماء، و يصرخ، و هي تقول له: صبرا صبرا، يا ابن أخي! و أني لك الصبر، و أنت علي هذه الحالة المشومة، يعز علي عمتك أن تسمعك و لا تنفعك. فلما سمعت انتحبت باكية! فقالت: سكينة! قلت: نعم. قالت: ما يبكيك؟ فقلت لها: حال أخي الرضيع، و لم أعلمها عطشي خشية أن يزيد همها، و وجدها، ثم قلت لها: يا عمتاه! لو أرسلت الي بعض عيالات الأنصار فلربما أن يكون ماء.

فقامت، و أخذت الطفل بيدها، و مرت بخيم عمومتي، فلم تجد عندهم ماء، فرجعت، و تبعها بعض أطفالهم رجاء أن تسقيهم ماء، ثم جلست في خيمة أولاد عمي الحسن عليه السلام، و أرسلت الي خيم الأصحاب لعل عندهم ماء فلم تجد...

فلما آيست رجعت الي خيمتها و معها ما يقرب من عشرين صبيا و صبية، فأخذت بالعويل، فنحن نتصارخ بالقرب منها، فمر علينا رجل من أصحاب أبي، و هو برير الهمداني و كان يقال له سيد القراء، فلما سمع بكاءنا رمي نفسه علي الأرض، و حثي التراب علي رأسه، و نادي بأصحابه: ما عندكم من الرأي؟ أيسركم أن تموت بنات فاطمة عطشا، و في أيدينا قوائم سيوفنا؟ لا و الله لا خير في الحياة بعدهم، بل نرد قبلهم حياض الموت. أصحابي، فليأخذ كل واحد منا بيد فتاة من هذه الفتيات، و نهجم بهم علي مشرعة الغاضريات، قبل أن يهلكن من الظمأ، و ان قاتلنا القوم قاتلناهم.


فقال لهم يحيي المازني: ان الحرسة يصرون علي قتالنا لا محالة، فاذا أخذنا بأيدي الفتيات، ربما ينال احداهن سهم، أو رمح، فنكون نحن السبب لذلك، لكن الرأي أن نحمل معنا قربة و نملأها لهم، فان قاتلنا أحد قاتلناه، و ان قتل منا أحد يكون فداء لبنات فاطمة الزهراء عليهاالسلام.

فقال برير: شأنك. ثم أخذوا قربة و ساروا قاصدين الفرات، و كانوا أربعة نفر، و أقبلوا نحو المشرعة، فحس بهم الحراس، فقالوا: من هؤلاء القوم؟ فقال لهم، أنا برير، و هؤلاء أصحابي، و قد كظنا العطش، و نريد أن نرد الفرات.

فقالوا لهم: مكانكم حتي نخبر رئيسنا بخبركم، و كان بين برير و بين رئيسهم قرابة، فلما أخبروه، قال لهم: أفرجوا لهم المشرعة حتي يشربوا. فلما نزلوا الي المشرعة و حسوا ببرودة الماء انتحب برير و أصحابه، و قالوا: لعن الله ابن سعد، هذا الماء يجري و أكباد آل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لا تبل منه بقطرة.

فقال برير: يا أصحابي اذكروا ما وراءكم و املأوا القربة، و عجلوا فقد ذابت قلوب أطفال الحسين عليه السلام من الظمأ، و لا تشربوا حتي تروي أكباد بنات فاطمة الزهراء عليهاالسلام، فقالوا: لا و الله يا برير! لا نشرب قبل أن تروي قلوب أطفال الحسين عليه السلام.

فسمعه رجل من الحرسة، فقال لهم: ما كفاكم الورود حتي تحملوا الي هذا الخارجي! والله لأخبرن اسحاق بخبركم، فان أغضي روعتكم بسيفي هذا حتي يصل خبركم الي الأمير. فقال له برير: يا هذا اكتم علينا أمرنا. ثم دني منه و هو يريد قبضه، فولي منهزما، و أخبر اسحاق بذلك، فقال: اعترضوا طريقهم، و أتوني بهم فان أبوا قاتلوهم.

فلما اعترضوهم، قالوا: يا برير! لا يرضي اسحاق بحملكم الماء الي صاحبكم. فقال له برير: ثم ماذا!؟ قالوا: اراقة دمائكم. فقال برير: اراقة الدماء أشهي من اراقة الماء، ويلكم، ما ذاق منا أحد طعم فراتكم و أنما همتنا ري أكباد أطفال الحسين عليه السلام، فو الله لا ندعكم حتي تراق دماؤنا حول هذه القربة.

فقال أحدهم: ان هؤلاء مستميتون علي يسير ماء، و لا يجدي لهم نفعا. و قال


بعضهم: لا تخالفوا حكم الأمير. فحاطوا بهم حلقا. فوضع برير و أصحابه القربة علي الأرض، و جثوا دونها، و برير يبكي و يقول: وا لهفتاه علي أكباد البينات، صد الله رحمته عمن صدنا عنكن، فحملها رجل علي عاتقه فاحتوشوهم الحرسة، و جعلوا يرشقون القربة بالسهام، فأصاب حبل القربة سهم حتي خاطه الي عاتق الرجل و سال الدم علي ثوبه و قدميه.

فلما نظر الدم يسيل، و القربة سالمة قال: الحمدلله الذي جعل رقبتي و قاء لقربتي. فلما رأي برير أن القوم غير تاركيه صاح بأعلي صوته: ويلكم يا أعوان بني سفيان لا تثيروا الفتنة، و دعوا أسياف بني همدان في مغامدها، و كان حول الحسين عليه السلام جماعة، فقال رجل منهم: اني أسمع صوت برير ينتدب و يعظ القوم، فقال الامام عليه السلام: الحقوا به. فركب جماعة اليهم، فلما رأوهم الحرسة رجعوا منهزمين.

فجاء برير بالماء حتي دني من الخيمة، فرمي القربة، و قال: اشربوا يا آل الرسول صلي الله عليه و آله و سلم هنيئا مريئا. فتباشرت الأطفال بالماء، و صحن صيحة واحدة: هذا برير جاءنا بالماء. و رمين بأنفسهن علي القربة، فمنهن من تحضنها، و منهن من تضع خدها عليها، و منهن من تلقي فؤادها عليها، فلما كثر ازدحامهن علي القربة انفلت الوكاء و أريق الماء، و تصارخت الفتيات، و صحن: أريق الماء يا برير! فجعل يلطم جبينه، و يقول: وا لهفتاه علي أكباد بنات رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم. انتهت هذه الرواية.

الدربندي، أسرار الشهادة، /395 - 394

في بعض كتب المقاتل منها: أسرار الشهادة للدربندي رحمه الله روي عن سكينة بنت الحسين عليه السلام قالت: عز ماؤنا ليلة التاسع من المحرم، فجفت الأواني و يبست الشفاه حتي صرنا نتوقع الجرعة من الماء، فلم نجدها، فقلت في نفسي: أمضي الي عمتي زينب لعلها ادخرت لنا شيئا من الماء. فمضيت الي خيمتها، فرأيتها جالسة و في حجرها أخي عبدالله الرضيع، و هو يلوك بلسانه من شدة العطش، و هي تارة تقوم، و تارة تقعد، فخنقتني العبرة، فلزمت السكوت خوفا من أن تفيق بي عمتي، فيزداد حزنها، فعند ذلك التفتت عمتي، و قالت: سكينة! قلت: لبيك. قالت: ما يبكيك؟ قلت: حال أخي الرضيع


أبكاني. ثم قلت: عمتاه! قومي لنمضي الي خيم عمومتي، و بني عمومتي، لعلهم ادخروا شيئا من الماء. قالت: ما أظن ذلك. فمضينا، و اخترقنا الخيم بأجمعها، فلم نجد عندهم شيئا من الماء، فرجعت عمتي الي خيمتها، فتبعتها من نحو عشرين صبيا و صبية، و هم يطلبون منها الماء، و ينادون: العطش! العطش، فكثر الضجيج منهم، فمر عليهم برير بن حضير الهمداني، و معه ثلاثة نفر من أصحابه، فسمع الضجة، فقال: ما هذا البكاء؟ فقيل له: يا برير! هؤلاء أطفال الحسين يبكون من شدة العطش و الظمأ. فالتفت برير الي أصحابه، و قال لهم: أصحابي! يمتن بنات رسول الله عطشا، و في أيدينا قوائم أسيافنا، اذا ثكلتنا أمهاتنا، فوالله لا يكون ذلك أبدا. فقال له رجل من أصحابه: الرأي أن يأخذ كل واحد منا فتاة من هذه الفتيات، و نهجم بهن علي الماء، و نسقيهم الماء. فقال برير: انك تعلم أن الحرسة مصرون علي قتالنا، فاذا هجمنا بهم علي الماء، فربما أصاب أحدا منهم سهم، أو رمح، فنكون نحن السبب لذلك، ولكن الرأي أن نأخذ القربة، و نملأها، فاذا قاتلونا، قاتلناهم، فاذا قتلنا صرنا فداء للحسين عليه السلام و لبنات رسول الله صلي الله عليه و آله. فقالوا له: هذا هو الرأي. ثم أخذوا القربة، و مضوا الي الفرات، فهجموا علي الماء، فنادي واحد من القوم: من أنتم؟ فقال برير: أنا برير، و هؤلاء أصحابي، أتينا لنشرب الماء، فقال لهم: اشربوا الماء هينئا، مريئا، ولكن بشرط أن لا يحمل أحد منكم قطرة من الماء للحسين. فقال لهم برير: ويلكم نشرب الماء هنيئا، و الحسين و بنات رسول الله يموتون عطشا؟! لا كان ذلك أبدا. ثم التفت الي أصحابه، و قال: يا أصحابي! لا يشرب أحد منكم الماء، اذكروا ما وراءكم. فقال له رجل من أصحابه: و الله ما نذوق الماء حتي تبل أكباد صبية صغار من بنات رسول الله صلي الله عليه و آله. ثم ان بريرا ملأ القربة و خرج من المشرعة هو و أصحابه، فاحتوشه القوم من كل جانب و مكان، فحمل عليهم برير و أصحابه، و جعلوا يدافعونهم، و كثر الازدحام عليهم، فقال برير لأصحابه: ان الرأي أن يأخذ أحدنا القربة، و يذهب بها، و نحن نقاتل، فحملها رجل من القوم، و سار بها يريد الخيام، اذ أتاه سهم، فوقع في حبل القربة، و خاطها في عنقه، فسال الدم علي صدره، فمد يده و أخرج السهم من عنقه، و الدم يجري و هو يقول: الحمدلله الذي جعل رقبتي فداء للقربة، و فداء


لأطفال الحسين عليه السلام. فوقف برير يقاتل و ينادي: يا آل أبي سفيان! اتقوا الله، و لا تثيروا الفتنة، و دعوا سيوف همدان في أغمادها. فسمعه الحسين عليه السلام و قال: معاشر الكرام! كأني أسمع صوت برير يعظ القوم، و ينتدب بآل همدان. فحمل من أصحاب الحسين عليه السلام اثنا عشر رجلا، و كشفوا القوم عن برير، و رجعوا جميعا الي الخيام، و جاؤوا بالقربة، و وضعوها بين أطناب الخيم، و نادوا: يا بنات رسول الله! دونكم الماء. فأقبلن يهرعن اليها، فاجتمعن يدرن حول القربة، فمنهم من يضع خده علي القربة من شدة العطش، و منهم من رمي بنفسه عليها، فاذا انحل الوكاء، و أريق ماؤها، و لم يبق منها قطرة واحدة، و لم تذق واحدة منهن شيئا، فصحن بأجمعهن: وا ويلاه! وا ثبوراه! و خرجن من الخيمة و صحن: يا برير! أريق الماء. فلما سمع برير، جعل يلطم علي رأسه، و يقول: وا لهفتاه علي أكباد بنات رسول الله صلي الله عليه و آله.

المازندراني، معالي السبطين، 321 - 319/1