بازگشت

الدور الثاني


ابتدأ هذا الدور بعد هجوم نادر شاه علي العراق، و يقدر أوله بسنة ثلاث و ستين بعد المائة و الألف الهجرية، و ذلك عند اسناد ولاية بغداد الي سليمان باشا مملوك أحمد باشا.

و قد ولع سليمان هذا باقتناء المماليك ولعا عظيما لكونه منهم. و قد بذل جهدا كبيرا في سبيل تربيتهم و تعليمهم الفنون الحربية، فعزز ذلك من مركزه، و حط من أنفة المستحقرين شأنه فاشتهر اسمه و بعد صيته في ضبطه للامور و عبقريته الادارية. الا انه فتح للعثمانيين بابا لم يتمكنوا من ردمه الا بعد مدة من الزمن اذ فلتة زمام المبادرة من أيد الحكومة


العثمانية. و دخل العراق دورا جديدا استقل فيه الولاة المماليك عن الحكومة العثمانية، فأطلقوا أيديهم في العبث بشؤونها، فأخذوا يتنافسون فيما بينهم للتوصل الي السلطة، و اندلعت الثورات في البلاد. و قد آل حال هذا الدور الي وضع غريب. لا يمكن للباحث المحقق أن يصف تلك الحالة وصفا ينطبق علي واقع الحال، اذ كانت الاوضاع في تقلب عجيب، لم تستقر فيها علي مبدأ واحد.

و لما وقع بين المماليك من التنافس و التناحر علي السلطة لم يبق للولاة تلك الأهمية و النفوذ التي كانت لولاة الدور الأول، فهذا عبدالله باشا طلب من حمود رئيس عشيرة المنتفق بتسليم سعيد بن سليمان الكبير. فرفض هذا الأخير طلبه حفظا للجوار. فاضطر الوزير الي الخروج بنفسه لكي يحفظ ما تبقي للوالي من هيبة و سلطة. فاشتبك مع حمود في معركة حامية، فدارت الكرة علي الوزير لتفرق بعض أعوانه عنه. فأسرت عساكره و نهبت سرادقه، و وقع هو نفسه في الأسر. فكبل بالحديد و وضع القيد في عنقه و أخذ الي السوق ذليلا، فخنق بها و قبر، ثم نبش و قطع رأسه. فصار سعيد المستجير أميرا، قام مقام الوزير لتعضيد حمود اياه اذ سير معه الجيوش الي بغداد و مكنه من ولايت أمرها هذا و لم تكن بين ولاياتها كالدور الاول رابطة قوية دائمة لتنظيم أمورها و صيانتها من تطاول الأيدي، و اخضاع العصاة من أهل عصبياتها، و المواقع الخارجة عن سيادتها. فهذه البصرة أخذها صادق شقيق كريم خان الزند بعد أن حاصرها مدة من الزمن دون أن يستطيع والي بغداد عمر باشا أن يفعل شيئا لعدم وجود حامية في بغداد تعمل علي استخلاص البصرة من أيدي الفرس. و ذلك فبالرغم من تشدد عبدالحميد و اهتمامه للأمر، و قيامه بارسال الجيوش لها من عاصمته، فان ذلك لم يغن شيئا، اذ بقت البصرة بأيد الأعاجم حتي أن بلغ صادق الزند خبر وفاة أخيه، فتركها فورا الي عاصمته شيراز طمعا بالسلطة. فعادت البصرة حينذاك فقط الي حوزة


الدولة العثمانية و ذلك لميل أهلها.

و لعدم وجود حامية في بغداد استقل رؤساء الولايات، كل بشؤون ولايته. خلا البصرة، اذ كانت الحكومة العثمانية ترسل اليها من يحكمها تحت اسم: (المسلم). و بعضا الحلة.

هذا و كان العثمانيون معذورين من عدم تركهم الحامية فيها أو ارسال الجند لاخضاع المتمردين بها. و ذلك لانشغالهم بأنفسهم و ارتباك أمورهم. ولكنه اذا أعلن أحد ولاتهم العصيان عليهم. فلا يتعدي الحال أمرين. أما أن يتداركوا الأمر بالحال. أو ينتظرون ريثما يعينون والي جديد يسيرون معه جيشا لاخضاع الخارج عن ارادتهم، و أخذ رأسه، و ارساله الي سرير السلطان.

و هناك وقع ما أغني العثمانيين من تكبد هذه المشاق، بما ظهر في البغداديين من الحماس و الاقدام علي عزل ولاتهم و قتل بعضهم، و نصب من رغبوا فيه. و كان ذلك من السهل عليهم بمكان، فقط كانوا يتقدمون الي تقديم محضر يطلبون فيه من الملك التصديق علي تعيينه، فبوصول هذا المحضر كانت تصدر الارادة موافقة علي ذلك اذ لم يكن هناك من يبحث عن سبب ذلك.

و لسيادة الفوضي و كثرة القتل و النهب في البلاد، اضطرب حبل الأمن و انقطعت طرق المواصلات بين البلاد. فألجأ هذا الحال الامراء و الولاة و بعض أهل الفضل الي أن يبذلوا الاموال لتشييد المعاقل و الخانات، و توظيف الخفراء فيها و ذلك لتأمين المسافرين من الأخطار. و ليأخذوا بها قسطا من الراحة أيضا و تلك المعاقل موجودة حتي اليوم، بعضها عامر و البعض الآخر علي شرف الاضمحلال لترك الناس لها عندما استتب الأمن نوعا ما و كانت القوافل لا تسير أكثر من ساعتين أو ثلاث. و لذلك راعوا في بناء هذه المعاقل أن تكون المسافة قليلة بين معقل و آخر، فاذا خرجت


القوافل من كربلاء قاصدة بغداد أمت المعقل الاول الذي يسمي اليوم ب (خان العطيشي)، ثم الي معقل المسيب ثم معقل الاسكندرية ثم معقل المحمودية. و قد يمرون بثلاثة معاقل حتي يصلوا بغداد. و لم تكن المسافة بين معقل و آخر لتتجاوز الثلاث ساعات.

و بلغ الحال بها من السوء درجة أن أصبحت القوافل مهددة في أقل من هذه المسافة. و أصبح الصعاليك يضربون الأتاوة علي ما يتمكنون من استيفائه. اذ لم تكن هناك قوة حازمة لتردعهم. فهؤلاء الزكاريت و ليسوا هم الا من صعاليك البدو كانوا يجبون بما في بساتين كربلاء من التمر. و قد وصل الأمر من السوء درجة انه اذا اعترض أحد الأهالي عليهم أو تكلم عنهم بسوء فسوف يصبح و هو لا يملك من نفسه و لا أرضه شيئا. و ربما أجبروا الأهلين الي تفويضهم حتي امتلاك بساتينهم. فكم ترك الاهالي لهؤلاء الصعاليك من الاراضي و البساتين اذ لليوم تطلق أسمائهم علي القطع التي اغتصبوها.

فليت شعري ان كان هذا حال صعاليكها و مستضعفيها. فبالله ماذا يكون من أمر أهل عدتها و عدديها. فلا نستغرب اذن من أنهم قد ألقوا الذعر و الفزع في نفوس أهل المدن الكبري اذ أن لعصبياتهم و تحزبهم صار شرهم لا يطاق لنهب كل عشيرة ما يجاورها من النواحي و الأقضية و المدن لزبيد الحلة و توابعها اذ ان موطنهم الجزيرة بين النهرين. و لخزاعة حسكة و توابعها و موطنهم الديوانية - علي انها اتخذت ديوانا لرؤسائهم - و للمنتفق البصرة لقرب موطنهم منها. و لبني لام بدرة و جصان، و قد وصلت بغداد غاراتهم. و للضفير الذين هم من البدو الرحل عند ورودهم العراق: السماوة و الرماحية. و لشمر كل العراق اذ انهم لا يأوون الي محل يختص بهم دون غيرهم.

و لربما اتفق هؤلاء جميعا و شاركهم من هم علي شاكلتهم في حصارهم


للمدن. و قد صادف في بعض السنين أو ورد من الايرانيين الي كربلا بقصد الزيارة ما ينوف عددهم علي الاربعين ألف زائر، و فيهم زوجة شاه ايران. فتحركت عليهم أطماع العرب. فاتفقت: خزاعة و زبيد و شمر و آل ضفير الي نهبهم. فقصدوا كربلاء و حاصروها مدة من الزمن و لوجود زوجة الشاه بينهم. خاف سعيد باشا والي بغداد حينذاك من عواقب الأمور. فاهتم لذلك و بعث داود الذي صار واليا علي بغداد بعد حين لما عرف فيه من الكفاية و البسالة و الاقدام. اذ كان ذلك باديا علي محياه من نعومة ظفاره فقام داود بالمهمة التي عهدت اليه. اذ جرد ما تمكن من تجريده من المتطوعة و نزل الحلة الي أن تمكن بعد جهد جهيد من ردع هؤلاء الأعراب و تفريق جمعهم. فسير مع الفرس من يخفرهم الي النجف ثم أعادوهم الي بغداد و أوصلوهم الي مأمنهم.

و مما زاد في الطين بلة أن أخذت العشائر تغزو بعضها بعضا. كما هو الحال الي اليوم داخل جزيرتهم لخلو فيافيها القاحلة من الحراثة و الزراعة فلم ير أهلها طريقا للعيش سوي غزو بعضهم بعضا.

و حيث انهم كانوا حديثوا عهد بالنهب و الغزو. و لم يكن بعد قد أصبح ذلك عرفا بينهم. فصاروا يتوسلون بكل وسيلة - مهما كانت طفيفة - من شأنها أن تثير الفتن بينهم. حتي يتخذوا منها ذريعة لغزو بعضهم بعضا. فان ذلك بها لا يعد لكثرته، فما وقع بين المنتفق و خزاعة فيما يلي السماوة كان من تلك الغارات. و كان لذلك يوما مشهودا انتصرت فيه خزاعة علي المنتنفق. و علي مر الايام أصبح الغزو و الغارة عادة لا ينكر شأنها. حتي ان البدو الذين هم داخل الجزيرة العربية كانوا عند قدومهم العراق يغزون مواقعها لتقرر ذلك اذ ان الأمر صار بينهم سنة و عادة. و ما وقع لأهل البادية بها لا يحصي عده و قد أدركنا جملة منها.

هذا و قد بلغ الحال من التأخر درجة بحيث صار الدور الاول من سير


ادارة حكم الدولة العثمانية دور عمران و تقدم اذا قيس بهذا الدور.

و ختم هذا الدور بسقوط داود باشا الذي حكمها بضع سنين مستقلا عن نفوذ العثمانيين.

و لولا ما داهمه القضاء في تدمير جيوشه بانتشار مرض الطاعون و الوباء بينهم. لكان خطره علي الدولة العثمانية تلو ما دهم العثمانيين من القائد المصري محمد علي. فذهبت مساعيه أدراج الرياح و قد أخذ أسيرا الي العاصمة و ترك هناك تحت اسم (شيخ الوزراء) ثم بعث شيخا لحرم الرسول المكرم صلي الله عليه و آله و سلم. فقام بتلك الوظيفة المقدسة أخريات أيامه الي أن أدركه حمامه، فقبر في بقيعها.

هذا و قد تدفقت الحياة مجددا بأوصال العثمانيين الخامدة عندما قام أحد سلاطينهم أبو السعود محمود الي قتل الينگچرية لسنة احدي و أربعين بعد المأتين و الالف الهجرية. و قد قبض بيد من حديد علي أمور الدولة. فأوقفها من هوة تقهقرها، و سعي لاعادة شأنها و اصلاح أمورها. عطف عند ذلك نظره علي العراق و أنقذها من يد المتغلب عليها داود. بعد أن فوض شؤون ادارتها الي اللاز علي رضا.

الا ان العراق لم يتزود من تفقداته بسوي ذلك، اذ اختطفته يد المنون فقام ولده عبدالمجيد مقامه فكان مما هيي ء له من أسباب السعادة أن عاصره المصلح الكبير الاول و أوحد رجالاتهم مصطفي رشيد، فألبس دولته لباس الحضارة و أعاد اليها أبهة النضارة. فأنار العراق بظهور آثار الدور الثالث من سير ادارة الحكم العثماني للعراق.