بازگشت

كربلاء في القرن الثالث عشر


و لم تزل كربلاء بين صعود و هبوط، و رقي و انحطاط. تارة تنحط فتخضع لدول الطوائف. و طورا تعمر متقدمة بعض التقدم الي أن دخلت في حوزة الدولة العثمانية سنة 914 هج. و أخذت تتنفس الصعداء مما أصابها من نكبات الزمان و حوادث الدهر التي كادت تقضي عليها. و بقيت مطمئنة البال مدة طويلة تزيد علي ثلاثة قرون [1] . و لم تر خلالها ما يكدر صفو سكانها حتي مفتتح القرن الثالث عشر الهجري.

اذ كان هذا القرن من مبتدئه الي منتهاه من أسوء القرون التي مرت بها المدينة المقدسة. كأنما القدر أبي أن تعيش ولو الي حين في طمأنينة و هدوء. فأنزل ضربته القاضية بما حل بها من محن و اراقة دماء و خراب و نهب. و ان كان ما حل بهذه المدينة المقدسة - في هذا القرن - لم يقتصر عليها وحدها و لم يختص بها بل عم جميع البلاد، و شمل البلاء سائر العباد.

و نظرا لعدم تسلسل الحوادث و ترابطها و عدم وقوع حوادث و وقائع متتالية بها في قرن واحد كهذا القرن في القرون الماضية. فرأينا عدم تثبيت تلك الحوادث هنا. و لا يعني هذا خلو القرون الماضية من الحوادث و الوقائع المهمة بها. بل العكس من ذلك، اذ حفظ التأريخ لنا حوادث غاية في الأهمية جرت علي بسيط أديمها. و قد ذكر ذلك صاحب الكامل و غيره لكن في قرون متباعدة. [2] .


و أستميح القاري ء عذرا لتركي ذكر السنين و الشهور و الايام علي الترتيب من مبتدأ هذا القرن حتي منتهاه، كما يقتضي اذ هو من سنن


مؤرخي العرب و سبيل الفطاحل من أئمتهم، و لا غرو فقد صنفوا مؤلفاتهم


في عصر رقي العرب و تمدنهم، و الحال غني عن البيان و الايضاح عن كيفية ضبطهم للحوادث و الوقائع بأوانها.

أما هذا القرن فهو أحد قرون تأخر العرب و سقوطهم، اذ فاقوا البرابرة أنفسهم بما جروه علي البلاد من الخراب و الدمار، فأني لهم العلم بضبط الحوادث. و قيد كنه ترتيب الوقائع.

و يجدر بنا قبل أن نتكلم عن حوادث كربلاء الدامية في هذا القرن أن نعطف نظرنا الي مجري أحوال العراق، السياسية و الاجتماعية. أبان الاحتلال العثماني لها، و نعطي للقاري ء فكرة موجزة عنها، لكي نتقرب و نتمكن من ادء مقصودنا.

هذا و يقسم سير ادارة الحكم العثماني للعراق الي ثلاثة أدوار امتازت هذه الأدوار بعضها عن بعض لنفوذهم و سيطرتهم حينا دون حين.

و الذي يهمنا في معرض حديثنا هذا هو سير ادارة الحكم العثماني في العراق أبان الدور الثاني و الثالث:


پاورقي

[1] أي من بعد غارة المولي علي بن فلاح المشعشعي سنة (858) هج الي حادثة الوهابيين سنة (1216) هج.

[2] اليک سردا موجزا بهذه الحوادث.. يحدثنا ابن‏مسکويه في تجاربه (ج 6 ص 338) و ابن‏الاثير في الکامل (ج 7 ص 153): في سنة 369 أغار ضبه الأسدي علي کربلاء و انتهک حرمة المشهد بالحائر و نهب ما وجد فيها. و کان ضبه هذا «من أهل عين التمر کثير العشائر و قد جرت عادته بالتبسط بأن يشن الغارات علي أطراف بغداد. و يمنع من جلب الميرة اليها ففعل و وجد الطريق الي بغيته فنهب السواد و قطع السبيل. (تجارب الامم ج 6 ص 153) فأرسل عضد الدولة سرية الي عين التمر في طلب هذا السفاک ضبه الأسدي فلم يشعر الا و العساکر معه فترک أهله و ماله و نجا بنفسه. و أخذ ماله و أهله و ملکت عين التمر. فکان ما جري عليه عقابا لما فعله بالحائر. و راجع أيضا المنتظم ج 7 ص 101 و في سنة 489 هج غارت خفاجه علي کربلاء و دخلوا المشهد الحسيني و تظاهروا فيه بالفساد و المنکر. فوجه اليهم سيف الدولة صدقة بن مزيد الأسدي صاحب الحلة جيشا فکبسوهم. و قتلوا منهم خلقا کثيرا في المشهد حتي عند الضريح. و قد ذکروا أيضا ان رجلا منهم قد ألقي نفسه هو و فرسه من أعلي السور فسلم هو و الفرس (الکامل ج 10 ص 108 ط: ليدن. و البداية لابن‏کثير ج 12: ص 152. و راجع أيضا المنتظم لابن‏الجوزي ج 9 ص 97).

و في حوادث سنة 513 هج يحدثنا ابن‏الجوزي في المنتظم (ج 9 ص 207) بأن دبيس بن مزيد الاسدي کسر المنبر الذي في مشهد علي عليه‏السلام و الذي في مشهد الحسين (ع). و قال: لا تقام هاهنا جمعة و لا يخطب أحد». من البديهي ان هذا العمل لم يکن عدائيا، و انما کان انکارا لذکر المسترشد في الخطبة بالمشهد الحسيني. لان دبيس هذا کان أحد أعاظم الشيعة.

و في شوال سنة خمس و تسعون و سبعمائة فتح تيمولنک المغولي بغداد. ففر حاکمها السلطان أحمد الجلائري الي کربلاء (توزک أمير تيمور الگورگاني ص 42). فتبعه جيش تيمور، فلحقه في کربلاء فدارت في صحرائها و تحت لهيب شمسها المحرقة رحي معرکة طاحنة. أجاد في وصفها ميرخواند صاحب (روضة الصفاء في المجلد السادس) فقد جاء فيه ما ترجمته:... فهرب السلطان أحمد الجلائري فتعقبه الامير تيمور بجنده، ولکن خواصه التمسوا منه البقاء في بغداد. و انهم سوف يعقبونه، فنزل الامير تيمور عند رغبتهم. أما الذين تعقبوا السلطان أحمد. وصلوا صباحا الي شاطي‏ء الفرات. و علموا ان السلطان قد عبر النهر و أغرق جميع السفن. و قطع الجسر الذي عليه. و انه ينوي الهروب الي دمشق عن طريق کربلاء. و هنا اختلفوا في أي الطرق أصوب لسلوکه. و قرروا أخيرا أن يعبروا الفرات. و هم في هذا الحال عثروا علي أربع سفن فرکبوها و عبروا بها الفرات. و اقتفوا أثر السلطان. و قد وجدوا في طريقه کثيرا من الاموال و الاسلاب و الاطعمة کان قد ترکها السلطان لما أصابه من الارتباک و الحيرة. فغنموها.

خمسة و أربعون رجلا من الامراء و الاعيان مثل: اينانج اغلان و جلال حميد و عثمان بهادر و سيد خواجه بن الشيخ علي بهادر و غيرهم. قد تقدموا جيشهم علي سبيل التعجيل. فظفروا هؤلاء بالسلطان أحمد في سهل کربلا. و کان مع السلطان 2000 فارس. تقدم منهم مائتا فارس. فالتحم القتال بين الفريقين و ترجل الامراء من خيولهم مرتين مستعدون للقتال. و قد انهزم أعدائهم من کثرة ما رشقوا بالنبال و قد رکب الامراء ثاني مرة و لحقوهم.

و في الکرة الثالثة حمل أتباع السلطان أحمد علي الامراء حملة عنيفة. بحيث لم يتمکن هؤلاء حتي من النزول عن خيولهم. و تلاحم فرسان و شجعان الطرفين في رحي معرکة حامية الوطيس. و قد أظهر الامير عثمان بهادر في ذلک اليوم شجاعة و بسالة فائقتين و قد کلت يده من کثرة الضرب و الطعن. أما السلطان أحمد فقد انتهز فرصة التحام الطرفين في القتال، و هرب و أوقع الامراء الهزيمة بجيش السلطان، و قد غنم الامراء أمواله و نفائسه التي نرکها في ساحة المعرکة. و کان من بين اسري السلطان نسائه، و ولده علاء الدولة مع جمع من أفراد عائلته، ثم قصد بعد ذلک عثمان بهادر و جماعته الي التبرک بزيارة المشهد الحسيني و تقبيل أعتابه الشريفة.

و جاء في روضات الجنات للخوانساري عند ترجمته لخلف المشعشعي و مجالس المؤمنين للشوشتري (ص 405): في المائة التاسعة نهب المشهدين الشريفين علي بن محمد بن فلاح المشعشعي ملک الحويزة و سبا أهلها، وقادهم الي مقره. و قد جاء في تأريخ الغياثي (المخطوط في مکتبة المتحف العراقي) ص 271 عن المولي المشعشعي ما نصه: و دخل يوم الاحد 23 ذي القعدة الي المشهد الغروي و الحائري، ففتحوا له الأبواب، و دخل فأخذ ما تبقي من القناديل و السيوف و رونق المشاهد جميعها من الطوس و الاعتاب الفضية و الستور و الزوالي و غير ذلک، و دخل بالفرس الي داخل الضريح. و أمر بکسر الصندوق و احرق و نقل أهل المشهدين من السادة و غيرهم بيوتهم.