بازگشت

شيء من التحقيق


لقد بذل العديد من العلماء والباحثين جهودهم، وخاضوا غمار البحث والتحقيق، لمحاكمة الروايات والنقول التاريخية حول قبر السيدة زينب الكبري.

واذا كان المقام المنسوب لها في سنجار شمال العراق لا تسنده رواية تاريخية فيما يتوفر من مصادر الا ما يتداول ويتوارث علي ألسنة أهالي تلك المنطقة فإن الأراء التي ناقشها العلماء والباحثون تنحصر في ثلاثة احتمالات:

1 ـ المدينة المنورة.

2 ـ مصر.

3 ـ دمشق.

أولاً ـ المدينة المنورة

دافع العلامة السيد محسن الأمين العاملي عن هذا الرأي باعتبار أن المدينة هي موطن السيدة زينب وأن من الثابت عودتها الي المدينة بعد واقعة كربلاء، فاستصحاباً نحكم بأن وفاتها وقبرها في المدينة المنورة مالم يثبت العكس، وقال نصه:

يجب ان يكون قبرها في المدينة المنورة فانه لم يثبت أنها بعد رجوعها للمدينة


خرجت منها، وان كان تاريخ وفاتها ومحل قبرها بالمدينة مجهولين، ويجب أن يكون قبرها بالبقيع وكم من أهل البيت أمثالها من جهل محل قبره وتاريخ وفاته خصوصاً النساء [1] .

وناقش هذا القول البحاثة الشيخ محمد حسنين السابقي بما يلي: نحن لا ننكر أن يكون مدفنها الطاهر في البقيع في المدينة المنورة إذ هي وطنها الكريم وبها قبور اخوتها وشيوخ قومها وجدها وأمها ولكن بشرط أن يقوم عليه دليل قاطع أو نصٍ تاريخي.

لأن قبور البقيع ذكرها المؤرخون قديماً وحديثاً يذكرها ابن النجار في (تاريخه)، والسمهودي في تاريخه الحافل (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفي) في باب مخصوص لذكر مزارات أهل البيت والصحابة ولا نجد فيها قبر العقيلة زينب لا في القبور المعمورة ولا المطموسة.

ولكان لمرقدها ذكر ولو في القرون الأولي كما بقي لمن دونها في الرتبة من بني هاشم بل ولمن يمت اليهم بالولاء أيضاً.

علي أن الذين ذهبوا الي هذا القول انما مستندهم الأستصحاب الأصولي وهو أنه ثبت أن العقيلة زينب دخلت المدينة بعد محنة أخيها ورجوعها من الشام وكانت بالمدينة في قيد الحياة ثم شككنا هل ماتت في الشام أم لا؟ فالاستصحاب يقول: الأصل عدم موتها بالشام بل بالمدينة حتي يحصل لنا شيء يزيل هذا الشك ويثبت لنا باليقين أنها ماتت بالشام.

وهذا الدليل لا غبار عليه في نفسه ولكن لا يستدل بمثله في القضايا التاريخية، ولو قلنا به فثبت ما أزال هذا الشك بما رواه ابن طولون الدمشقي من ذهابها الي الشام وموتها بها وعليه أكثر الفقهاء المجتهدين الأصولين [2] .


ثانياً: بين القاهرة ودمشق

وإذا لم يكن هناك أثر نقلي يتحدّث عن قبر للسيدة زينب كبري في المدينة المنورة ولا يوجد مقام ظاهر ينسب لها هناك، فإنّ الأمر ليس كذلك فيما يرتبط بمصر والشام، حيث توجد روايات ونصوص تاريخية يستدلّ بها أنصار كلّ من الرأيين، كما يتعالي في سماء القاهرة ودمشق مقامان شامخان ينسبان للسيدة زينب، وتؤمّهما جماهير المؤمنين ويقصدهما الزائرون.

لكنّ المطالعة الدقيقة والبحث الموضوعي في أدلّة الطرفين يرجّح كفّة الأطمئنان إلي أنّ مشهد الراوية في دمشق هو الأقرب إلي الصحّة والواقع.

وذلك لتظافر الأدّلة في كتب المؤرخين والرحّالة والسّائحين منذ القرون السابقة وإلي الآن.

ولضعف مستند القائلين بسفر السيدة زينب الكبري إلي مصر وموتها فيها، وللإحتمال الكبير في أن يكون المقام في مصر لزينب أخري من أهل البيت.

وقد أفرد بعض العلماء كتباً ورسائل لتحقيق هذا الموضوع، ومن أبرزهم العلامة المرحوم الشيخ فرج العمران القطيفي (1321 هـ) والذي ألّف رسالة تحت عنوان (المرقد الزينبي) سنة (1377 هـ) وطبعها في النجف الأشرف ـ العراف) وكانت نتيجة البحث التي انتهي إليها في رسالته هو ترجيح المقام الزينبي في مشق، وأنّه للسيدة زينب الكبري.

والبحث الآخر والأعمق هو للبحّاثة الباكستاني الشيخ محمد حسنين السّابقي، ويقع في أكثر من (240 صفحة) وقد طبع في بيروت سنة (1399 هـ 1979 م).

ونقتبس منه الفقرات التالية بشيء من التصرّف والاختصار إنّ رحلة السيدة العقلية إلي مصر واقامتها هناك وتليبتها لداعي حماها وحديث مدفنها بها قضية من أهمّ القضايا التي لا يفوت ذكرها كلّ مؤرخ يقظان.

ولا أقلّ من أن يذكره والمؤرّخين الذين نشأوا في مصر خان ولكنهم بأجمعهم لم


يشيروا اليه أدني اشارة.

وتتجلي هذه الحقيقة بعدما نري اهتمام المصريين باحاطة الأخبار وضبط الحوادث المتعلقة ببلادهم.

فأول مدوّن لتاريخ مصر في الإسلام هو عبد الرحمن بن عبد الحكم المصري المتوفي (257 هـ) له في تاريخ مصر كتاب حافل سماه «منهج السالك في أخبار مصر والقري والممالك» ذكر فيه تراجم كثير من الصحابة ممن دخل مصر.

وتبعه أبو عمرو محمد بن يوسف الكندي المتوفي (354 هـ) وله عدة تأليفات في تاريخ مصر.

ثم برع في تدوين أخبار مصر والأحاطة بحوادثها أبو محمد حسن بن إبراهيم بن ذولاق الليثي المصري المتوفي (387 هـ).

ثم تلاه في هذا الموضوع عز الملك محمد بن عبدالله بن أحمد الحراني المسبحي المتوفي سنة (420 هـ).

ثم المؤرخ المتتبع القاضي أبو عبدالله محمد بن سلامة القضاعي الشافعي المتوفي (453 هـ) ولم يقصر همه علي ضبط الحوادث التاريخية فقط بل ألف في المزارات المقصودة للزيارة والتبرك التي تشد اليها الرحال وله في هذا الموضوع كتاب (اُنس الزائرين) ترجم فيه للسيدة نفيسة وعين مدفنها وليس فيه لقبر زينب الكبري عين ولا أثر.

ثم اعطف الي المقريزي والسيوطي والقلقشندي وغيرهم لم نجد أحداً من هؤلاء أنه ذكر دخول السيدة زينب الكبري في مصر ومدفنها بها.

علي أن هناك جماعة من مؤرخي مصر ممن أفرد تأليفه في تحقيق المزارات والقبور والمساجد كابن يونس والهتناني والقرشي صاحب (المزارات المصرية) وابن سعد النسابة صاحب (مزارات الأشراف) وابن عطايا والحموي الذي ذكر جملة من مزارات مصر، وموفق الدين صاحب (مرشد الزوّار) تري هؤلاء الإعلام يترجمون أصحاب القبور ويميزون بين المزارات الصحيحة والمزورة من العلويين وغيرهم في مصر.


ولم يذكر أحد من هؤلاء أن العقيلة زينب الكبري بنت أمير المؤمنين مدفونة في مصر [3] .

إن كبار المؤرخين المطلعين علي تاريخ مصر بدقة وتحقيق لم يصح لديهم دخول أي ولد لأمير المؤمنين لصلبه في مصر.

قال الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي المتوفي (576 هـ): ـ لم يمت له ـ أي لعلي ـ ولد لصلبه في مصر.

قال الحافظ المؤرخ أبو محمد حسن بن إبراهيم بن زولاق الليثي المصري المتوفي (387 هـ):

أول من دخل مصر من ولد علي سكينة بنت علي بن الحسين.

وبه قال السخاوي.

وفي لفظ آخر للسخاوي: إن المنقول عن السلف انه لم يمت أحد من أولاد علي لصلبه في مصر.

فكيف من المعقول ان تدخل العقيلة زينب مصر وتقيم هناك زهاء السنة ثم تقبر علي مرأي من المحاشد الجمة ومسمع، ولا يعرف أمرها أحد من المؤرخين الذين عهدهم قريب بتلك الحادثة المهمة.

والإمام الشافعي كان يتجاهر بالولاء لأهل البيت، وقد ورد في سيرته أنه كان يزور السيدة نفيسة لكن لم يرد أنه زار السيدة زينب هناك [4] .

كما دخل مصر جملة من الرحالين كابن جبير وابن بطوطة وابن شاهين وذكروا ما شاهدوا من القبور المعروفة المقصودة للزيارة في عهدهم ولكن لا تجد أحداً منهم يذكر قبر السيدة زينب الكبري في مصر.. اللهم الا الرحالة الكوهيني الفاسي


الاندلسي الذي دخل القاهرة في (14 ـ محرم 369 هـ) [5] .

إن الاشتباه بوجود قبر العقيلة زينب نشأ لتعدد المسميات بزينب من العلويات وغيرهم المدفونات بمصر، والذهن أسرع تبادراً عند سماع الإسم الي أشهر الأفراد وأكملها.

ومن المعلوم أن عادة العامة والخاصة جرت أنهم ينسبون العلويين الي رسول الله وأمير المؤمنين بلا واسطة [6] .

والظاهر أن المشهد الزينبي المعروف في القاهرة هو للسيدة زينب بنت يحيي المتوج بن الحسن الأنور بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب [7] .

والمصدر الأساس لدعوي هجرة السيدة زينب الكبري الي مصر وموتها ودفنها فيها رسالة (أخبار الزينبيات) للنسابة العبيدلي، وحول هذه الرسالة ومؤلفها ورواتها وبالخصوص الرواية المتعلقة بهذا الموضوع حولها كلام عند أهل التحقيق سنداً ومتناً [8] .


پاورقي

[1] (أعيان الشيعة) محسن الأمين ج 7 ص 140.

[2] (مرقد العقيلة زينب) السابقي ص 102.

[3] المصدر السابق ص 29 ـ 31.

[4] المصدر السابق ص 32 ـ 33.

[5] المصدر السابق ص 33.

[6] المصدر السابق ص 54.

[7] المصدر السابق ص 59.

[8] المصدر السابق ص 75 ـ 101.