بازگشت

في مجلس يزيد


وكان موقف السيدة زينب في مجلس يزيد بن معاوية من اروع مواقف الدفاع عن الحق، وتحدي جبروت الطغيان والظلم.

فيزيد بن معاوية كان أمامها متربعاً علي كرسي ملكه، وفي أوج قوته، وزهو انتصاره، تحف به قيادات جيشه، ورجالات حكمه، وزعماء الشام، وتشير الروايات التاريخية الي حضور بعض الدبلوماسيين الأجانب كرسول قيصر ملك الروم، وبالتالي فقد كان يزيد حريصاً علي التمتع بكامل هيبته، والظهور بأعلي درجات القوة والسيطرة.

وتعرف السيدة زينب فظاظة يزيد وغلظته، وتهوره في القمع والأرهاب، وإن أي استفزاز له يمكن أن يدفعه الي أسوأ الأجراءات فليس له رداع من دين أو عقل.

كما أن أجواء المجلس كانت مهيأة ومعدة ليكون الإجتماع مهرجاناً للأحتفال بانتصار الحاكم علي ثورة أهل البيت.

من ناحية أخري فقد كانت السيدة زينب في ظروف بالغة القسوة والشدة، جسدياً ونفسياً، فهي لا تزال تعيش تحت وطأة الفاجعة وتأثيرها الهائل علي


أحاسيسها ومشاعرها، ولأجواء الشماتة والأذلال التي استقبلتها في الشام وقع كبير علي نفسها، ومجرد حضورها سبية أسيرة في مجلس عدو ظالم حاقد قد ارتضع وتوارث عداء أسرتها منذ عهود وعقود، وهي من هي في خدرها وصونها وعزها، إن ذلك وحده كفيل بتحطيم المعنويات وهزيمة الروح.

وجسدياً فإن السفر كان مرهقاً وشاقاً، حيث كان السير حثيثاً تنفيذاً لرغبة السلطة في الوصول بأسرع وقت الي الشام، ومراكب السفر وهي الجمال لم تتوفر لها أدني وسائل الراحة التي اعتادها المسافرون في ذلك الزمن.

والمرافقون العسكريون لقافلة السبايا كانوا جفاة صلفين في تعاملهم مع النساء والأطفال كزجر بن قيس وشمر بن ذي الجوشن، حيث يقذفون السبايا بالشتم والسب ويضربونهم بالسياط لأدني مناسبة.

وعامل الجوع والعطش كان له دور في انهاك السيدة زينب وارهاقها حيث كان الجنود يقترون علي السبايا في الطعام والشراب، مما يدفع السيدة زينب للتنازل عن حصتها لسد جوع وعطش الأطفال، متحملة مضاضة الجوع والعطش.

ويصف الأستاذ عبد الباسط الفاخوري حالة قافلة السبايا الي الشام بقوله: «ثم إن عبيدالله جهز الرأس الشريف وعلي بن الحسين ومن معه من حرمه بحالة تقشعر منها ومن ذكرها الأبدان، وترتعد منها مفاصل الأنسان بل فرائص الحيوان» [1] .

اضافة الي كل ذلك فقد أحيط دخول السبايا الي الشام وحضورهم في مجلس يزيد باجراءات بالغة الصعوبة قصد منها ايقاع أكبر قدر من الأذلال والهوان بنفوس السبايا.

وقبل ادخالهم علي يزيد أوقفوهم فترة علي درج باب المسجد حيث مكان ايقاف سبي الكفار، ثم أتوا اليهم بحبل أوثقوهم به كتافاً وقد كانت بداية الحبل في عنق


علي بن الحسين ونهايته في عنق السيدة زينب، كما تربق الأغنام، وساقوهم باذلال، وكلما قصروا عن المشي ضربوهم بالسياط، والسبايا يكبرون ويهللون، حتي أوقفوهم بين يدي يزيد في مجلسه وهو متربع علي سريره، فالتفت اليه علي بن الحسين قائلاً: «ما ظنك بجدنا رسول الله لو يرانا علي مثل هذه الحالة»؟.

فتأثر يزيد ولم يبق أحد في مجلسه الا وبكي، وأمر يزيد بالحبال فقطعت [2] .

ودعا يزيد برأس الحسين ووضعه أمامه في طست من ذهب [3] ومع يزيد قضيب فهوي ينكت به في ثغره ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام المري:



يفلقن هاماً من رجال أحبّة

الينا وهم كانوا أعق وأظلما



فقام رجل من أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يقال له «أبو برزة الأسلمي» فقال: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين؟ أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً لربما رأيت رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يرشفه! أما انك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا يوم القيامة ومحمد (صلي الله عليه وسلم) شفيعه.

ثم قام فولي [4] .

وتمادي يزيد في اظهار شماتته وفرحه وصرح بما في مكنون نفسه من انه ينتقم من رسول الله (صلي الله عليه وآله) ومن أهل بيته حيث صار يتمثل بابيات شعر لعبدالله بن الزبعري جاء فيها:



ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل






لأهلوا واستهلوا فرحــاً

ثم قالوا يا يزيد لا تشل



قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعـدلناه ببدر فاعتـدل



لعبت هـاشم بالمـلك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل



لست من خندف ان لم أنتقم

من بني أحد ما كان فعل



وسمعت العقلية زينب ترنم يزيد بهذ الأبيات، التي يعلن فيها كفره بالرسالة والوحي، وإن دافعه الي قتل أهل البيت هو الأنتقام وأخذ ثأر قتلي المشركين في بدر، ورأته كذلك يعبث برأس أخيها الحسين.. هنا قررت السيدة زينب أن تتحمل مسؤليتها في مواجهة هذا الكفر الصريح، وأن تمارس دورها الرسالي في اعلان الحق، فتفجر بركان ارادتها الأيمانية، ووقفت خطيبة قائلة:

«الحمد لله رب العالمين، وصلي الله علي رسوله وآله أجمعين، صدق الله (سبحانه) حيث يقول: (ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوأي أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن) [5] .

أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأساري. أن بنا علي الله هواناً، وبك عليه كرامة؟.

وأن ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسرورا، حين رأيت الدنيا لك مستوسقه، والأمور متسقة، وحين صفالك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً، لا تطش جهلاً، أنسيت قول الله (تعالي) (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين) [6] .


أمن العدل يابن الطلقاء!.

تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدوبهن من بلد الي بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي، ولا من رجالهن ولي؟.

وكيف يرتجي مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟.

وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنآن، والإحن والأظفان؟.

ثم تقول غير مستأثم ولا مستعظم:



لأهلوا وأستهلوا فرحاً

ثم قالوا يا يزيد لا تُشل



منحنياً علي ثنايا أبي عبدالله سيد شباب أهل الجنة، تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك؟ وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب.

وتهتف بأشياخك، زعمت أنك تناديهم، فلتردن وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت وفعلت.

اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا.

فهوالله ما فريت الا جلدك، ولا حززت الا لحمك، ولتردن علي رسول الله بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في ذريته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم، ويأخذ بحقهم: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) [7] .


وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد خصيماً وبجبرئيل ظهيراً.

وسيعلم من سوّل لك، ومكنك من رقاب المسلمين (بئس للظالمين بدلاً) [8] أيّكم (شر مكاناً وأضعف جنداً)؟.

ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبري، والصدور حري! ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء!! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي، تنتابها العواسل، وتعفرها أمهات الفراعل!! ولئن اتخذتنا مغنماً، لتجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد، والي الله المشتكي وعليه المعول.

فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها.

وهل رأيك الا فند؟ وأيامك الا عدد؟ وجمعك الا بدد؟.

يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله علي الظالمين.

والحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة، والرحمة ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعمة الوكيل» [9] .



پاورقي

[1] (حياة الإمام الحسين) القرشي ج 3 ص 367.

[2] (مقتل الحسين) المقرم ص 350. (حياة الإمام الحسين) القرشي ج 3 ص 376.

[3] (مقتل الحسن) المقرم ص 354.

[4] (تاريخ الأمم والملوک) الطبري ج 6 ص 267.

[5] سورة الروم آية 10.

[6] سورة آل عمران أية 178.

[7] سورة آل عمران آية 169.

[8] سورة الکهف آية 50.

[9] سورة مريم آية 75.