بازگشت

في مواجهة ابن زياد


امعاناً منه اذلال سبايا أهل البيت، استجابة لأحقاده الكامنة ضد آل الرسول، ولاستعراض القوة، وتمكين الرعب في قلوب الناس.. فقد عقد في قصره ومجلس حكمه مهرجاناً ضخماً أحضر فيه رجالات جيشه وقادة عسكره وزعماء الكوفة الملتفين حوله، وأمر باحضار رأس الحسين بين يديه، وادخال السبايا عليه.

وجلس ابن زياد علي أريكة حكمه الجائر منتشياً بانتصاره الزائف، وبيده عصاة يعبث بها في رأس الحسين، وينكث بين شفتيه.

فلما رآه يزيد بن ارقم لا ينجم عن نكته بالقضيب، قال له:

اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا آله غيره، لقد رأيت شفتي رسول الله (صلي الله عليه وسلم) علي هاتين الشفتين يقبلهما!! ثم انفضخ الشيخ يبكي، فقال له ابن زياد:

أبكي الله عينيك فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك!!.

قال: فنهض فخرج، فلما خرج سمعت الناس يقولون: والله لقد قال


زيد بن أرقم قولاً لو سمعه ابن زياد لقتله!.

قال: فقلت: ما قال؟.

قالوا: مرّ بنا وهو يقول: «ملك عبدٌ عُبدا، فاتخذهم تلدا، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل، فبُعداً لمن رضي بالذل» [1] .

وأدخلت السبايا عليه وكن في حالة يرثي لها من الأرهاق والعناء والألم، وكانت في الطليعة زينب وهي تلبس أرذل الثياب، وقد تنكرت وانحازت الي ناحية من المجلس تحف بها النساء المسبيات.

وابن زياد يعلم مكانة السيدة زينب في البيت العلوي، لذلك اراد ان يصوب اليها بسهام الشماتة، وأن يتلذذ باذلالها في مجلسه وأمام الملأ.

فالتفت نحوها قائلاً: من هذه الجالسة؟.

فلم تكلمه استهانة به، واحتقاراً لشأنه.

وأعاد السؤال مرة ثانية وثالثة دون أن يظفر منها بجواب، الا أن احدي السيدات المسبيات انبرت اليه مجيبة.

هذه زينب ابنة فاطمة بنت رسول الله.

وانفعل ابن زياد مع ترفع السيدة زينب عن اجابته واندفع يخاطبها غاضباً متشمتاً: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم!!.

ومع أن السيدة زينب كانت تحبذ التسامي والتعالي علي حقارة ابن زياد، وأن لا تدخل معه في حديث استهانة به.. الا أن الموقف كان يتطلب من السيدة زينب ممارسة دورها الرسالي في الدفاع عن ثورة أخيها الحسين، وتأكيد موقعية أهل بيتها العظيمة في الأمة، وتمزيق هالة السلطة والقوة التي أحاط بها ابن زياد


نفسه، لذلك بادرت الي الرد عليه قائلة:

«الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد، وطهرنا من الرجس تطهيراً إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا يا ابن مرجانة».

وما كان ابن زياد يتوقع هذا الرد الشجاع القوي من امرأة تعيش أفظع مأساة، وأسوأ حال، فأراد أن يلفتها الي مأساتها ومصيبتها حتي تفقد جرأتها وتنهار معنوياتها، فقال لها متشفياً:

فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟.

لكن العقيلة أفشلت محاولته وانطلقت تجيبه بكل بسالة وصمود:

«ما رأيت الا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الي مضاجهم وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانه!!».

إنه لموقف ايماني بطولي عظيم يندر أن يحتفظ تاريخ البشرية بمثيل له: لقد تجاوزت السيدة زينب بارادتها وبصيرتها النافذة كل ما أحاط بها من الآم الماساة، ومظاهر قوة العدو الظالم، ولم تبال بجبروته وعساكره، بل جابهته بالتحدي وجهاً لوجه أمام أعوانه وجمهوره، معلنة أنها لا يساورها أي شعور بالهزيمة والهوان، فما حدث لأسرتها شيء جميل بمنطق الرسالة التي يحملونها، والمسألة لا تعدو أن تكون استجابة لأمر الله (تعالي) الذي فرض الجهاد ضد الظلم والعدوان، وهي واثقة أن المعركة بدأت ولم تنته، ونهايتها الحاسمة يوم القيامة بين يدي الله وهناك سيكون النصر الحقيقي حليفاً لها ولأسرتها الكريمة.

ثم تختم كلامها بالدعاء بالهلاك للطاغية المتجبر أمامها مخاطبة له «ثكلتك أمك يابن مرجانة».

وكان ردها عليه قاسياً شديداً أسقط هيبته الزائفة في أعين الحاضرين جميعاً، بل حطم كبرياءه وغروروه، واستبد به الغضب متوعداً السيدة زينب بالعقوبة والتنكيل.. فتدارك الموقف عمرو بن حريث ليخفف من غلواء غضب ابن زياد


قائلاً:

أصلح الله الأمير إنما هي أمرأة! وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها؟ إنها لا تؤاخذ بقول ولا تلام علي خطل!.

فتراجع ابن زياد عن تهديده بالعقوبة والتنكيل الجسدي مستبدلاً به العقاب النفسي حيث توجه الي السيدة زينب ليلذع قلبها بعبارات الشماتة والتشفي قائلاً:

«لقد شفي الله قلبي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك، فأثار بهذا الكلام شجون السيدة زينب، وأشعل الحزن والألم في قلبها، ولعها أرادت حينئذٍ استخدام سلاح العاطفة وإعلان المظلومية فأجابته بلوعة وأسي.

«لعمري لقد قتلت كهلي، وأبدت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد أشتفيت».

وشعر ابن زياد بالضعف والصغار أمام منطق العقيلة زينب فغير دفة الحديث قائلاً: هذه سجاعة، لعمري لقد كان أبوها سجاعاً شاعراً.

فردته السيدة زينب بقولها: «إن لي عن السجاعة لشغلاً ما للمرأة ما للمرأة والسجاعة» [2] .

ونقل السيد المقرم عن (الكامل في التاريخ) للمبرد (ج 3 ص 145) طبع سنة: 1347 هـ قوله: لقد أفصحت زينب بنت علي وهي أسن من حمل الي ابن زياد، وأبلغت، وأخذت من الحجة حاجتها.

فقال ابن زياد لها: إن تكوني بلغت من الحجة حاجتك فقد كان أبوك خطيباً شاعراً.

فقالت: ما للنساء والشعر!.


وكان ابن زياد ألكناً يرتضخ الفارسية [3] .


پاورقي

[1] (تاريخ الأمم والملوک) الطبري ج 6 ص 262.

[2] (تاريخ الأمم والملوک) الطبري ج 6 ص 262 ـ 263. و (الکامل في التاريخ) ابن الأثير ج 4 ص 81 و (حياة الإمام الحسين) القرشي ج 3 ص 343.

[3] (مقتل الحسين) المقرم ص 325.