بازگشت

آفاق الخطاب


يمثل خطاب السيدة زينب في الكوفة أول تصريح وتعليق علي واقعة كربلاء بعد حدوثها يصدر من أهل البيت (عليهم السلام)، وتكمن أهمية الخطاب في أنه موجه للمجتمع المسؤول عن ما حدث بصورة مباشرة وهو المجتمع الكوفي.. والخطاب أيضاً يعتبر الجولة الأولي في معارك السيدة زينب ضد الاجرام والظلم الأموي..

من هنا لابد من قراءه الخطاب قراءة متأنية واعية، ونسلط هنا الأضواء علي بعض آفاق ذلك الخطاب الهام:

أولاً: تحمل المجتمع الكوفي المسؤلية المباشرة عما حدث للامام الحسين وأهل البيت وعن مصير الثورة المقدسة، فالكوفيون هم الذين كاتبوا الحسين وألحوا عليه بالقدوم اليهم، وبايعوا سفيره مسلم بن عقيل، فكيف خذلوا الامام وتخلوا عنه، واستسلموا لترهيب ابن زياد وترغيبه؟

ثم إن الجيش الذي زحف لقتال الامام، وصنع تلك الجريمة الكبري، كان في أغلب قياداته وجنوده من أبناء المجتمع الكوفي..

وبعد كل ما حدث لماذا يتفرج الكوفيون علي نتائج الأحداث، وهم يرون رأس الامام الحسين ورؤوس أهل بيته مرفوعة علي أطراف الرماح تخترق شوارع بلدتهم، ويشاهدون نساء الحسين وعيالاته أساري سبايا بين ظهرانيهم، فلماذا السكوت والخنوع والصمت علي كل ما يجري؟ وماذا ينتظرون لكي تتحرك غيرتهم الدينية وشيمتهم العربية؟.

لذلك تنقل الرواية التي ضمنت الخطاب قول الامام زين العابدين (عليه السلام) معلقاً علي بكاء نساء أهل الكوفة: «إن هؤلاء يبكون وينوحون من


أجلنا فمن قتلنا»؟.

وهذا ما ركزت عليه السيدة زينب في خطابها، إذ اعتبرت أهل الكوفة مسؤولين بشكل مباشر عن الفاجعة، ووجهت اليهم أشد التوبيخ والذم...

فقالت عنهم: «أهل الختل والغدر» والختل هو الخداع، والغدر هو الخيانة ونقض العهد، فأهل الكوفة بدعوتهم الامام للقدوم اليهم وبمبايعتهم له والتزامهم بنصرته ثم التخلي عنه بل والمشاركة في قتاله قد مارسوا أسوأ أنواع الخداع والخيانة ونقض العهد.. واعتبرتهم السيدة زينب نموذجاً وتطبيقاً للمثل المعروف عن المرأة الحمقاء التي كانت تغزل مع جواريها الي انتصاف النهار ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن، وهذا دأبها كل يوم.. وهو مثل ذكره القرآن الحكيم: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً) [1] وكأن السيدة زينب بقولها: «إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا» تشير الي أن أهل الكوفة قد تكرر في تاريخهم وواقعهم أنهم يقفون الي جانب الحق ويقدمون التضحيات، لكنهم وفي ذروة الصراع مع أهل الباطل يتراجعون وينسحبون، ويضيعون بذلك جهودهم وتضحياتهم ومستقبلهم، حصل ذلك في موقفهم مع الامام علي حيث خاضوا معه معركة الجمل ومعركة صفين، وحينما لاح فجر النصر لهم بعد تضحياتهم الكبيرة استجابوا لخدعة معاوية برفع المصاحف وطلب التحكيم، فاغتالوا بذلك انتصارهم وأعطوا الفرصة لعدوهم.. وكرروا ذات الموقف مع الامام الحسن حيث بايعوه والتفوا حوله وزحفوا معه لمواجهة تمرد معاوية لكنهم لما حانت ساعة المواجهة تخاذلوا وهدموا بذلك صرح الشرعية والقيادة الذي بنوه ببيعتهم للامام الحسن.. ومع الامام الحسين مارسوا نفس الطريقة والحالة، فهم قد بايعوا الامام وأقدموه اليهم، وكادت الكوفة أن تستعيد دورها القيادي بخضوها لسفير الامام مسلم بن عقيل، لكنهم في اللحظات الأخيرة والحساسة، بدّدوا كل تلك الآمال،


واغتالوا مستقبلهم ومستقبل الأمة.. اذاً فهم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، وزينب بهذا التمثيل تحاكي ما قاله أبوها من قبل لذات المجتمع حين قال: «أما بعد: يا أهل العراق، فإنما أنتم كالمرأة الحامل حملت فلما أتمت أملصت، ومات قيمها، وطال تأيمها، وورثها أبعدها» [2] أوليست زينب تفرغ عن لسان أبيها؟ كما قال الراوي.. وتوجه زينب لهم التهمة بصراحة ووضوح في فقرات عديدة من خطابها: «فلقد ذهبتم بعارها وشنارها».. «ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم»... «لقد جئتم شيئاً إدّاً»، «ولقد جئتم بها حرقاء شوهاء»..

ثانياً: التركيز علي نقاط ضعف المجتمع الكوفي ومساوئ أخلاقه: فالجريمة لم تنطلق من فراغ، وإنما هي نتيجة طبيعية لتلك الأخلاقيات المنحرفة...

وتنبههم الي أبرز مساوئ أخلاقهم بقولها: «وهل فيكم الا الصلف والنطف، والكذب والشنف، وملق الاماء، وغمز الأعداء، أو كمرعي علي دمنة، أو كقصة علي ملحودة».

و «الصلف»: هو التمدح بما ليس في الذات أو فوق ما في الذات اعجاباً وتكبراً [3] .

ومن يقرأ رسائل الكوفيين للامام الحسين، وكلماتهم أثناء مبايعتهم والتفافهم حول سفيره مسلم بن عقيل، والتي ادعوا فيها اخلاصهم وتفانيهم واستعدادهم للتضحية فداءاً للامام الحسين، وأكدوا فيها تصميمهم علي مقاتلة الأعداء وإلحاق الهزيمة بهم.. ومن يلاحظ حقيقة موقفهم وواقعهم فيما بعد تجاه الامام الحسين، يري بوضوح أنهم يتصفون بالصلف كما قالت عنهم السيدة زينب، وقد سبقها أبوها الامام علي في اكتشاف هذه الصفة السلبية للمجتمع الكوفي في قوله لهم:


ـ «كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء! تقولون في المجالس كيت وكيت، فاذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد» [4] .

ولا غرو فإنها تفرغ عن لسان أبيها.. أما «النطف» فهو التلطخ بالعيب، أو القذف بالفجور..

و «الشنف» بالتحريك البغض والتنكر..

وتشير السيدة زينب الي ابتلائهم بمرض التملق المفرط «ملق الاماء» فالأمة التي لا حول لها ولا قوة تجد نفسها مضطرة الي إبداء أعلي درجة من الخضوع والطاعة والانقياد لسيدها، وتبالغ في جلب ودّه ورضاه، والمجتمع الكوفي كان كذلك في تعامله مع السلطة المهيمنة عليه آنذاك..

و «الغمز» الطعن بالشر..

«كمرعي علي دمنة أو كقصة علي ملحودة» تشير بذلك الي حالة الازدواجية التي كان يعاني منها المجتمع الكوفي، فظاهره حسن يغري بينما ما تنطوي عليه النفوس سيء خبيث، وتشبههم بالزرع الأخضر في مكان أوساخ الحيوانات وفضلاتها «مرعي علي دمنة»، وبالقبر المجصص ظاهره بالجص الجميل المنظر، ولكن ماذا في حفره القبر غير الرفاة المتفسخة لجسد الميت «كقصة علي ملحودة»..

ويعلق السيد المقرم علي هذه الفقرة بقوله:

والذي أراه أن النكتة في هذه الأستعارة: ان القصة بلغة الحجاز الجص، والملحودة القبر لكونه ذا لحد، فكأن القبر يتزين ظاهره بياض الجص ولكن داخله جيفة قذرة، وأهل الكوفة وإن تزين ظاهرهم بالإسلام، الا أن قلوبهم كجيف الموتي بسبب قيامهم بأعمال الجاهلية الوخيمة العاقبة من الغدر وعدم الثبات علي المباديء الصحيحة، وقد أنفردت «متممة الدعوة الحسينية» بهذه النكات البديعة


التي لم يسبقها مهرة البلغاء اليها، لأنها ارتضعت در «الصديقة الكبري» التي أخرست الفصحاء بخطابها المرتجل [5] .

ثالثاً: توضيح أبعاد الفاجعة: فما حدث في كربلاء لم يكن أمراً سهلاً، وليس شيئاً عادياً بسيطاً، إنه كارثة مروعة، وفجيعة عظمي، وجريمة نكراء.

والسلطة الحاكمة قد تحاول تبسيط ما حدث، فهو تمرد علي النظام اضطر الجيش الي قمعه ليس إلا!!.

لكن السيدة زينب في خطابها أوضحت للناس الأبعاد الحقيقية لما حدث حين قالت: «فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها ابداً».

فالفظائع التي ارتكبت في كربلاء بحق أهل البيت تمثل جريمة نكراء تسود وجوه وتاريخ أصحابها بالعار والشنار وهو أقبح العيب، ولا يمكن ازالة وتطهير آثار تلك الجريمة أبداً.

ثم تخاطبهم قائلة:

ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم».

فبالمقياس الديني أنهم قد اعتدوا علي رسول الله (صلي الله عليه وآله) فالحسين سبطه وحبيبه والعزيز علي قلبه، وعيال الحسين وثقله، هم حرمة رسول الله.. فكيف يسمحون لأنفسهم كمسلمين أن يقترفوا ذلك؟.

إنها جريمة في مستوي الشرك بالله (سبحانه) لذلك تصفها السيدة زينب بما وصف به القرآن شرك الكافرين وادعاهم أن لله ولداً: (



وقالوا اتخذ الرحمن ولداً

لقد جئتم شيئاً إدّاً) [6] .



كما تشير السيدة زينب الي أنهم مارسوا الجريمة بأكبر قدر من الحقد والبشاعة: «ولقد جئتم بها خرقاء وشوهاء».


وتثبت السيدة زينب في خطابها قضية تداولت نقلها بعض المصادر من أن السماء أمطرت دماً يوم متقل الحسين، وحينما تقول ذلك السيدة زينب يصبح أخباراً حقيقياً صادقاً، وهي بذلك تذكر من قد يكون غافلاً عن الربط بين القضيتين أي قتل الحسين، وإمطار السماء دماً، كما تخلد هذا الحادث للتاريخ والأجيال.

رابعاً: منزلة الحسين ومقامه: لابد وأن الإعلام الأموي سيسعي جاهداً للتقليل من شأن الحسين والأفتراء علي شخصيته، كما حصل لأبيه الإمام علي، لذلك ركزت السيدة زينب في خطابها علي التأكيد علي منزلة الحسين ومقامه فهو: «سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شاب أهل الجنة».

خامساً: الأنذار بالأنتقام: فعدالة الله (تعالي) تأبي أن تمر تلك الجريمة النكراء دون عقاب يتناسب مع خطورتها لكن العقاب قد لا يأتي فورياً «فلا يستخفنكم المهل فانه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثأر وإن ربكم لبالمرصاد».

وكان الإنتقام الالهي من قتلة الحسين ومن المجتمع المتواطئ معهم شديداً وقوياً، حيث لم يعرف ذلك المجتمع بعدها أمناً ولا استقراراً.


پاورقي

[1] سورة النحل (آية 92).

[2] (نهج البلاغة) الإمام علي الخطبة رقم: 71.

[3] المنجد في اللغة.

[4] (نهج البلاغة) الإمام علي الخطبة رقم: 29.

[5] (مقتل الحسين) المقرم ص 312.

[6] سورة مريم آية 88 ـ 89.