بازگشت

خطابها في الكوفة


وغادرت السيدة زينب كربلاء بعد ظهر اليوم الحادي عشر من المحرم مثقلة بما لا تتحمله الجبال الرواسي من الهموم والأحزان، فلأول مرة في حياتها تسافر دون أن يحيط بها رجالات أسرتها وحماة خدرها، وهي قد رزئت بأفجع مصيبة يمكن أن تحل بانسان، حيث فقدت أكثر من سبعة عشر بطلاً من أهلها ما علي وجه الأرض لهم شبيه، اضافة الي حوالي السبعين من أنصارهم والمدافعين عنهم، وشاهدت السيدة زينب مصارعهم علي بوغاء كربلاء بتلك الصورة الفظيعة..

وكانت الأربع والعشرون ساعة التي سبقت سفرها الي الكوفة من أصعب واشد الساعات التي مرت عليها في حياتها، حيث أحرق الظالمون خيامها، وهجموا عليها مع باقي نساء ويتامي عشيرتها، وسلبوا كل ما لديهن من الحلي والحلل..

ودخلت السيدة زينب الكوفة صباح اليوم الثاني عشر من المحرم تحيط بها كل تلك الهموم والآلام، وتثقل كاهلها تلك المصائب والأحزان...

من جهة أخري فقد خطط حاكم الكوفة عبيدالله بن زياد للاستفادة من وصول سبايا الحسين في اظهار قوة السلطة وتصميمها علي سحق أي محاولة تمرد أو معارضة، وأن يجعل من قدوم السبايا تظاهرة لإدانة تحرك الامام الحسين وثورته، وللإحتفاء بانتصاره الزائف علي ثورة الحق والعدل...

في غمرة هذه الأجواء دخلت السيدة زينب الكوفة مع السبايا علي جمال غير مهيأة لإراحة راكبيها، وفي حال مأساوي فظيع...

وللسيدة زينب في الكوفة تاريخ وذكريات، فقد كانت سيدة الكوفة أيام خلافة أبيها أمير المؤمنين علي قبل عشرين سنة من دخولها الآن.. فلابد وأن تستعيد في نفسها صور تلك الأيام، وأن تثور في قلبها ومخيلتها الذكريات.. ففي تلك المحلة كانت تقيم، وذاك محراب أبيها علي ومنبره في مسجد الكوفة.. وهذه الأزقة التي كان يسلكها أبوها علي.. وهذا باب دارها الذي كان يقصده السائلون والمحتاجون..

وتتوالي الصور والذكريات في مخيلة السيدة زينب، ولعلها تتمني وترغب في أن تسرح بفكرها وتسترسل بمشاعرها مع تلك الصور والذكريات العزيزة، لكن سياط الواقع الأليم تنتزعها من تلك الذكريات انتزاعاً..

عن حذلم بن كثير قال: قدمت الكوفة سنة 61 هـ عند مجيء علي بن الحسين من كربلاء الي الكوفة ومعه النسوة، وقد أحاط بهم الجنود، وقد خرج الناس للنظر اليهم، وكانوا علي جمال بغير وطاء، فجعلن نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن..

ورأيت علي بن الحسين قد أنهكته العلة، وفي عنقه الجامعة، ويده مغلولة الي عنقه، وهو يقول بصوت ضعيف: إن هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا فمن قتلنا؟!.

قال حذلم بن كثير: ورأيت زينب بنت علي، ولم أر خفرة أنطق منها كأنها تفرغ عن لسان أبيها أمير المؤمنين، وقد أومأت الي الناس أن أسكتوا، فارتدت الأنفاس، وسكنت الأصوات، فقالت:

ـ «الحمد لله والصلاة علي أبي محمد وآله الطيبين الأخيار..


أما بعد: يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر.

أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة..

إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا..

تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم..

ألا وهل فيكم الا الصلف والنطف، والكذب والشنف، وملق الأماء وغمز الأعداء..

أو كمرعي علي دمنة، أو كقصة علي ملحودة..

ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون..

أتبكون وتنتحبون؟!.

أي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً..

فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً..

وأني ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجتكم، ألا ساء ما تزرون!.

وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله ورسوله وضربت عليكم الذلة والمسكنة..

ويلكم يا أهل الكوفة!.

أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟.

وأي كريمة له أبرزتم؟.

وأي دم له سفكتم؟.

وأي حرمة له انتهكتم؟.

لقد جئتم شيئاً إدّا! تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر


الجبال هدّا!!.

ولقد جئتم بها خرقاء، شوقاء، كطلاع الأرض، وملء السماء، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً؟ ولعذاب الآخرة أخزي وهم لا ينصرون..

فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثأر، وإن ربكم لبالمرصاد..

قال الراوي: فوالله لقد رأيت الناس حياري يبكون، قد ردّوا أيديهم في أفواههم، ورأيت شيخاً واقفاً الي جنبي يبكي حتي اخضلت لحيته بالدموع، ويده مرفوعة الي السماء وهو يقول: بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير النسل، لا يبور ولا يخزي أبداً..

فقال لها الامام: علي بن الحسين: «أسكتي يا عمة فأنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفهمة غير مفهمة» [1] .

مصادر الخطبة ورواتها:

لقد أوردت خطاب السيدة زينب في الكوفة مصادر عديدة هي من أمهات المراجع، ومن أبرز تلك المصادر:

1 ـ الشيخ الطوسي في: (أماليه)..

2 ـ أبو المؤيد الموفق بن أحمد الخوارزمي في الجزء الثاني من كتابه:.


مقتل الحسين

3 ـ أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور في: (بلاغات النساء)..

4 ـ أبو عثمان الجاحظ في: (البيان والتبيين).

5 ـ الشيخ أحمد بن علي الطبرسي ـ من علماء القرن السادس ـ في كتابه: (الأحتجاج).

لكن اسم الراوي الذي نقل عنه الخطاب يختلف من مصدر الي آخر فالشيخ الطبرسي ينقله عن حذيم بن شريك الأسدي، ويكرر اسمه ثلاث مرات بين فقرات الرواية، كما ينقل عنه أيضاً خطاب الإمام زين العابدين في الكوفة [2] .

وحذيم بن شريك الأسدي ذكره الشيخ الطوسي في (رجاله) في أصحاب الحسين (عليه السلام) [3] .

أما الشيخ النقدي فقد قال: أن الخطبة قد تواترت الروايات عن العلماء وارباب الحديث بأسانيدهم عن حذلم بن كثير.

وذكر أن حذلم بن كثير من فصحاء العرب.. وقال: إن الجاحظ رواها في كتابه (البيان والتبين) عن خزيمة الأسدي [4] أما الشيخ القرشي فقد أثبت الرواية عن «جذلم بن بشير» [5] .

ولم يثبت السيد المقرم اسماً للراوي واكتفي بعبارة «يقول الراوي» [6] .

وذكر أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور في كتابه (بلاغات النساء) سند الخطبة كما يلي: «عن سعيد بن محمد الحميري ـ أبو معاذ ـ عن عبدالله بن عبد


الرحمن ـ رجل من أهل الشام ـ عن شعبة، عن حذام الأسدي، وقال مرة أخري حذيم قال: قدمت الكوفة» [7] .


پاورقي

[1] اعتمدنا في نقل النص علي المصادر التالية:

أ ـ (الاحتجاج) للطبرسي ص 303.

ب ـ (حياة الإمام الحسين) للقرشي ج 3 ص 334.

جـ ـ (مقتل الحسين) للمقرم ص 311.

د ـ (زينب الکبري) للنقدي ص 48.

[2] (الاحتجاج) الطبرسي ج 1 ص 303 ـ 305.

[3] (أعيان الشيعة) السيد محسن الأمين ج 4 ص 606.

[4] (زينب الکبري) النقدي ص 49 ـ 50.

[5] (حياة الإمام الحسين) القرشي ج 3 ص 334.

[6] (مقتل الحسين) المقرم ص 334.

[7] (بلاغات النساء) ابن طيفور ص 23.