بازگشت

سلاح المظلومية


في المعركة بين الحق والباطل يستخدم كل من طرفي الصراع جيمع ما يتاح له من أسلحة وما بحوزته من امكانيات ليقضي علي خصمه أو ليوقع به أكبر قدر ممكن من الخسائر.

واذا كانت الأسلحة المادية المستخدمة في القتال علي أرض المعركة متشابهة كالسيوف والرماح، فإن الأسلحة المعنوية ووسائل الأستقطاب للمؤيّدين وأساليب التّأثير والتّعامل مع الناس، تكون متفاوتة مختلفة بين الطرفين، نتيجة لاختلافهما في الأهداف الدافعة والقيم الحاكمة.

حيث تسعي كل جبهة لتعبئة أفرادها ورفع معنوياتهم، كما تجتهد في استقطاب الجمهور والتأثير في الرأي العام لصالح موقفها.

ولتحقيق ذلك تستخدم جبهة الباطل أساليب الأغراء والمكر والخداع، لأثارة الأهواء والرغبات في نفوس أتباعها، فتمنيهم بالأموال والمناصب والأمتيازات، وتغريهم بانتصاراتها الزائفة وقوتها الزائلة بينما تشهر جبهة الحق سلاح الصدق والخلاص، وتستثير في نفوس أتباعها قيم الحق والعدل وروح التضحية والفداء.


ومن أمضي أسلحة جبهة الحق التي تجلت في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) هو سلاح المظلومية، بإبراز عدوانية الطرف الآخر وبشاعة جرائمه، واظهار عمق المأساة وشدة الآلام والمصائب التي تحملها معسكر الإمام الحسين.

والمظلومية تستصرخ ضمائر الناس وتوقظ وجدانهم، وتدفعهم الي الوقوف الي جانب أهل الحق المظلومين، كما تستثير نقمتهم وغضبهم ضد المعتدين الظالمين.

والمظلومية تعبيء الأتباع المناصرين وتدفعهم للألتفاف أكثر حول معسكرهم وقضيتهم، كما تؤثر في نفوس الجمهور ليتعاطف ويؤيد المظلومين ضد الظالمين، بل وتمتد آثارها حتي الي معسكر العدو لتحرك فيه ضمائر بعض جنوده المخدوعين، فيتمردون علي معسكرهم الظالم ويلتحقون بصفوف الثوار المخلصين وأكثر من ذلك فإن تأثير المظلومية يتخطي الأزمنة والأعصار ليحشد أجيال البشرية علي مر التاريخ الي جانب معسكر الحق.

وقد تحقق كل ذلك وبأروع صورة في واقعة كربلاء فبينما كانت السلطة الأموية تستعرض قوتها العسكرية أمام الناس لترهبهم حتي يقفوا الي جانبها وتمارس عليهم أشد ضغوط القمع.

وبينما كان الوالي الأموي علي الكوفة عبيدالله بن زياد يغدق الأموال والرشوات علي الزعماء والوجهاء، ويزيد في عطاء الجنود، ويعد القيادات كعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي بالمناصب والولايات.

في مقابل كل ذلك كان الإمام الحسين وأصحابه يبشرون بالقيم السامية ويخاطبون الضمائر الحرة، ويبصرون الناس بواقعهم ومسؤلياتهم، ويلفتون الأنظار الي جرائم السلطة الظالمة، وعدوانيتها وجورها الذي تجاوز كل الحدود.

وكان سلاح المظلومية مؤثراً جداً، فكلما شاهد اصحاب الحسين ما يصيب امامهم وعيالاته من الآلام والمصائب، استماتوا أكثر في الدفاع والتضحية والفداء، وازدادوا قناعة ويقيناً بعدالة قضيتهم.

ويحدثنا التاريخ كيف أن أفراداً بل قيادات من الجيش الأموي قد تأثرت


لمظلومية الإمام الحسين وغيرت موقفها وتحولت الي جانب المعسكر الحسيني.. كالحر بن يزيد الرياحي وكان من قادة الجيش الأموي ومن اشجع أبطالهم، وهو الذي قاد أول فرقة عسكرية حاصرت الإمام في الطريق ـ كما سبق ـ.

هذا الرجل حركت مظلومية الإمام وجدانه ومشاعره وأيقظت ضميره، فألوي بعنان فرسه صوب الإمام وهو مطرق برأسه الي الأرض حياءاً وندماً، فلما دنا من الإمام رفع صوته قائلاً:

«اللهم اليك أنيب فقد ارعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك يا أبا عبدالله إني تائب فهل لي من توبة؟».

ونزل عن فرسه، فوقف قبال الإمام ودموعه تتبلور علي وجهه، وجعل يخاطب الإمام ويتوسل اليه بقوله:

«جعلني الله فداك يابن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وجعجعت بك في هذا المكان. والله الذي لا اله الا هو ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة ابداً».

لقد هزه وأثاره ما بلغه القوم من الإمام، يعني ما أصاب الإمام منهم من المآسي والآلام.

ولم يكن الحر وحده قد تأثر بمظلومية الإمام بل ان حوالي ثلاثين فارساً آخر من الجيش الأموي قد اتخذوا ذات الموقف والتحقوا بمعسكر الإمام [1] .

أما انعكاس مظلومية الإمام الحسين وأصحابه وعيالاته علي جماهير الأمة آنذاك فهذا ما تحدثناعنه الانتفاضات والثورات التي انطلقت في مختلف أرجاء الأمة كرد فعل علي مقتل الإمام الحسين بتلك الصورة الفظيعة، كثورة التوابين والتي كان شعارها: «يا لثارات الحسين» وثورة المختار الثقفي، وثورة أهل المدينة.

ولا تزال مظلومية الإمام الحسين حية مؤثرة في القلوب والنفوس علي مر


العصور والأجيال الي يومنا هذا والي أن يرث الله الأرض ومن عليها..

وأبرع وأكثر من شهر سلاح المظلومية واستخدمه في واقعة كربلاء هي السيدة زينب.. حيث كانت تسلط الأضواء وتلفت الأنظار الي مواقع الظلامة، وقامت بدور تأجيج العواطف والهاب المشاعر أثناء الواقعة، وبعد الواقعة في الكوفة والشام وحينما عادت الي المدينة، بل كرست باقي أيام حياتها للقيام بهذا الدور العظيم..

إن المواقف العاطفية الوجدانية التي قامت بها السيدة زينب حيث كانت تبكي وتتألم وتنعي وتندب وتستغيث وتستصرخ لم تكن مجرد ردود أفعال عاطفية علي ما واجهته من مآسي وآلام، بل كانت تلك المواقف فوق ذلك سلاحاً مشرعاً تصوبه نحو الظلم والعدوان، وتدافع به عن معسكر الحق الرسالة..

ولنقف الآن بعض العينات والنماذج من تلك المواقف الزينبية:


پاورقي

[1] المصدر السابق ص 196 ـ 198.