بازگشت

المبادرة والاختيار


قد يجد الأنسان نفسه في معمعة معركة لم يكن مختاراً للدخول فيها، وقد يصبح متورطاً في مشكلة فرضت عليه دون قصد منه. ويحصل هذا غالباً بالنسبة للمرأة فبحكم تبعيتها للرجل أباً كان أو زوجاً أو ولداً، قد تجد نفسها محشورة في معركته دون سابق وعي أو اختيار من قبلها.

فهل كان حضور السيدة زينب ودورها في ثورة كربلاء شيئاً من هذا القبيل؟.

بقرائة واعية لدور السيدة زينب ولمواقفها وكلماتها خلال أحداث الواقعة يتجلي للباحث أن السيدة زينب قد اختارت دورها في هذه الثورة العظيمة بوعي سابق وادراك عميق، وانها كانت المبادرة للمشاركة كما احتفظت بزمام المبادرة في مختلف المواقع والوقائع الثورية.

ويحدثنا التاريخ أن السيدة زينب هي التي قررت وأرادت الخروج مع أخيها الحسين في ثورته، مع أنها من الناحية الدينية والاجتماعية في عهدة زوجها عبدالله بن جعفر والذي كان مكفوف البصر، كما كانت ربة منزلها والقائمة بشؤون ابنائها، وكل ذلك كان يمنع التحاقها بركب أخيها الحسين.. لكنها قررت تجاوز


كل تلك العوائق واستأذنت زوجها في الخروج مع أخيها، فاذن لها بذلك بل وأمر ولديه عون ومحمد بالإلتحاق بقافلة الثورة.

ولأن سفر الإمام الحسين كان محفوفاً بالمخاطر فقد اقترح عليه شيوخ بني هاشم أن لا يصطحب معه أحداً من النساء والعيال، ولكن السيدة زينب كانت بالمرصاد لمثل هذه المقترحات التي تحول بينها وبين المشاركة في المسيرة المقدسة.

فهذا عبدالله بن عباس وبعد أن عجز عن اقناع الإمام الحسين بالعودة عن قرار الخروج الي الثورة يناقشه في حمل النساء والعيال معه قائلاً:

إن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك، فإني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون اليه [1] .

ومحمد بن الحنفية اخو الإمام الحسين طرح علي الإمام نفس التساؤل بعدما أخبره الإمام الحسين بعزمه علي الخروج قائلاً: «أتاني رسول الله وقال لي: يا حسين أخرج فإن الله شاء أن يراك قتيلاً.

فتساءل محمد بن الحنفية: فما معني حمل هؤلاء النسوة والأطفال وأنت خارج علي مثل هذا الحال؟.

وكان جواب الإمام علي تساؤل هؤلاء المشفقين علي مستقبل نسائه وعائلته أشد اثارة وغرابة حيث قال (عليه السلام): «قد شاء الله أن يراهن سبايا» [2] .

ويروي الشيخ النقدي أن السيدة زينب اعترضت علي نصحية ابن عباس للإمام بأن لا يحمل معه النساء: فسمع ابن عباس بكاءاً من ورائه وقائلة تقول: يابن عباس تشير علي شيخنا وسيدنا أن يخلفنا هاهنا ويمضي وحده؟ لا والله بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقي الزمان لنا غيره؟ فالتفت ابن عباس واذا المتكلمة هي زينب [3] .


وكما أن أصل اشتراكها في الثورة كان بقرارها الواعي، فإن أغلب مواقفها في ميادين الثورة كانت تنبثق من مبادراتها الوثابة الشجاعة، فيه التي تهرع نحو أخيها الحسين حينما تدلهم المصائب والخطوب لتشاركه المواجهة.

وهي في يوم عاشوراء تتحدي الآلام والظروف العصيبة لتمارس دورها البطولي العظيم، مع أن بعض ما أصابها يكفيها عذراً للانشغال بأحزانها والإبتعاد عن ساحة المعركة.

ثم وما الذي دفعها للخطابة أمام جمهور الكوفة؟.

ومن كان يتوقع من مثلها خطابها الناري في مجلس يزيد بن معاوية؟ لقد كانت ظروف السبي والأسر، وطبيعة الخفارة والخدر لدي السيدة زينب، وأجواء الشماتة والعداء المحيطة بها في الكوفة والشام.. لقد كان كل ذلك أو بعض ذلك يكفي دافعاً نحو الانكفاء علي الذات ومعالجة الهموم والحزن.. لكن العقيلة زينب تسامت علي كل ذلك، وامتلكت زمام المبادرة مسيطرة علي كل ما حولها من ظروف وأوضاع.

ولأنها كانت مختارة ومبادرة عن سابق وعي وتصميم، فانها كانت تنظر الي ما واجهته من آلام ومآس قاسية تتصدع لهولها الجبال الرواسي، تنظر اليها بايجابية واطمئنان، وتعتبرها ابتلاءاً وامتحاناً إليها لابد لها من النجاج فيه.

بل انها وفي أشد المواقف وافظعها تضرع الي الله شاكرة حامدة آلاء نعمه، معلنة تقبلها لقضاء الله، واستعدادها لتحمل الأكثر من ذلك في سبيله.

فحينما حدثت الفاجعة الكبري بمقتل أخيها الحسين بعد قتل كل رجالات بيتها وأنصارهم خرجت السيدة زينب تعدو نحو ساحة المعركة تبحث عن جسد أخيها الحسين غير عابئة بصفوف الجيش الأموي المدجج بالسلاح، فلما وقفت علي جثمان أخيها العزيز الذي مزقته السيوف، جعلت تطيل النظر اليه ثم رفعت بصرها نحو السماء وهي تدعو بحرارة ولهفة: «اللهم تقبل منا هذا القربان» [4] .


إن ذروة الماساة وقمة المصبية هو مورد للتقرب الي الله (تعالي) عند السيدة زينب.. وذلك هو قمة الوعي وأعلي مستويات الأرادة الأختيار.

وحينما يسألها عبدالله بن زياد أمير الكوفة وواجهة السلطة الأموية في مجلسه سؤال الشامت المغرور بالنصر الزائف قائلاً: كيف رأيت فعل الله بأخيك؟.

فانها تجيبه فوراً ومن أعماق قلبها بجرأة وصمود قائلة: «ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الي مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة» [5] .

وتختم خطابها في مجلس يزيد بن معاوية بتأكيد رؤيتها الأيجابية لما حصل لها ولأهل بيتها من مصائب وآلام حيث تقول: «والحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل» [6] .

فزينب لم تكن مستدرجة، ولم تجد نفسها متورطة في معركة فرضت عليها بل اقتحمت ساحة الثورة بملء ارادتها وكامل اختيارها، وهنا تتجلي عظمة السيدة زينب.



پاورقي

[1] (حياة الإمام الحسين) القرشي ج 3، ص 27.

[2] المصدر السابق ص 32.

[3] (زينب الکبري) النقدي ص 94.

[4] (حياة الإمام الحسين) القرشي ج 3، ص 304.

[5] المصدر السابق ص 344.

[6] المصدر السابق ص 380.