بازگشت

معركة النهروان


لقد قبل الإمام علي بالتحكيم بعد رفع المصاحف من قبل أهل الشام مضطراً لرغبة أكثرية أتباعه في ذلك، لكن طائفة من جيشه غيّروا رأيهم بعد ذلك ورأوا أن القبول بالتحكيم كان خطأ كما هو رأي الإمام علي في البداية، وطالبوا الإمام بالتراجع ونقض نتيجة التحكيم والأعتراف بأنه كان مخطئاً في موقفه، وشكلوا لهم تجمعاً مضاداً منشقاً علي الإمام، وبدأوا يثيرون الفتنة ويمارسون الإرهاب، فبعث لهم الإمام الرسل والوسطاء المفاوضين حتي يرتدعوا عن غيهم ورد علي اشكالاتهم وشبههم مراراً في خطبه وأحاديثه، فلما أصروا علي البغي وممارسة الأرهاب زحف عليهم الإمام بجيشه في منطقة النهروان بين بغداد وحلوان، وكانوا أربعة آلاف رجل، تراجع منهم ألف ومائتان بعد خطب الإمام ومحاولاته لهدايتهم، أما الباقي فقد بادروا الي الحرب ورموا معسكر الإمام بالنبال، فحمل عليهم الإمام بجيشه وأبادهم ولم يفلت منهم الا أقل من عشرة أشخاص.

وتُعرف هذه الواقعة بواقعة الخوارج، وقد حصلت بعد شهور قلائل من انتهاء واقعة صفين وفي نفس سنة (37 هـ).

لقد كانت هذه المعارك مؤلمة جداً لنفس الإمام وموجعة لقلبه، انه كان يحمل للأمة منهج إنقاذ وخلاص، ويخطط لتطبيق العدل والمساواة والحرية، وأن يكمل مسيرة الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) في بناء خير أمة أخرجت للناس، لكن الأنتهازيين والمصلحين والحاقدين والجهلاء عرقلوا برنامجه الطموح ووضعوا العقبات الكأداء في طريقه اللاحب، وأضاعوا علي الأمة والبشرية جمعاء فرصة ذهبية تاريخية.

وأصبح علي يقلّب كفيه حسرة علي واقع الأمة المؤسف، ويجتّر آهاته وآلامه لفقده خيرة أصحابه في تلك المعارك المفروضة عليه، ولما أصاب معسكره وجمهوره من تعب وتردد وتقاعس، ولممارسات معاوية الأستفزازية التخريبية بغاراته علي البلدان الخاضعة لحكم الإمام.


ولم تكن السيدة زينب بعيدة عن الآم أبيها ومعاناته، فهي تسمعه أو يبلغها عنه ما كان يخطب به جمهوره علي منبر الكوفة، وهو يصرخ فيهم موبّخاً معاتباً يستثير همهم ويستنهض حميتهم قائلاً:

«يا أشباه الرجال ولا رجال!.

حلوم الأطفال، عقول ربّات الحجال!.

لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرّت ندماً، وأعقبت سدما!.

قاتلكم الله!.

لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً، وجرّعتموني نُغَبَ التهمام أنفاساً، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان..» [1] .

ويأتيه خبر احدي غارات معاوية وعبثه وفساده في منطقة الأنبار، فيمتلئ قلبه حزناً وألماً لما أصاب الناس الآمنين من بطش جيش معاوية، ويتمني الموت ولا يراه كثيراً أمام تحمل هذه الآلام والمأسي، وتسمع زينب اباها وهو يبث همومه ومعاناته قائلاً:

«ولقد بلغني أن الرجل منهم ـ من جيش معاوية ـ كان يدخل علي المرأة المسلمة والأخري المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها، وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه الا بالاسترجاع والاسترحام.

فلو ان امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديرا!.

فياعجباً! عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم» [2] .

ويبلغها عن أبيها موقفه علي مصارع خلّص أصحابه في صفين كعمار بن ياسر


وهاشم المرقال، وهو يتضجر من الحياة ويتمني الموت، وينشد باكياً:



ألا أيها الموت الذي لست تاركي

ارحني فقد أفنيت كل خليل



أراك بـصيراً بالـذين أحـــــــــبهم

كأنك تنحو نحوهـم بدليل



لقد اشتدت محنة الإمام وأحاطت به الآلام، فصار يستعجل الرحيل عن هذه الدنيا وأهلها، ويتشوق الي لقاء الله لكن عبر أفضل سبيل وأسرع طريق وهو الشهادة، فهو يكره مغادرة الحياة بموت بارد ساذج، ويرغب العروج الي الله متوشّحاً برداء الشهادة مضمخاً بدمها الطاهر.. أو ليس هو القائل:

«أن أكرم الموت القتل!».

والذي نفس ابن أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة علي الفراش في غير طاعة الله» [3] .

وهو الذي كان يدعو ربه قائلاً: «اللهم.. فارزقنا الشهادة» [4] .

بالطبع كان عشق علي وشوقه للشهادة عميقاً في نفسه منذ أيام شبابه، ولم يكن شيئاً مستجداً طارئاً علي نفسه بعد أن كبرت سنه واشتدت معاناته، وهذا ما يؤكده الإمام حين ينقل احدي ذكرياته مع رسول الله (صلي الله عليه وآله) فيقول:

«فقلت: يا رسول الله، أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من أستشهد من المسلمين، وحيزت عني الشهادة، فشق ذلك عليّ، فقلت لي: أبشر فإن الشهادة من ورائك؟.

فقال لي: إن ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذن؟.

فقلت: يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر ولكن من مواطن البشري


والشكر» [5] .

وحانت ساعة اللقاء.. واقترب موعد الرحيل. ودنت لحظة الفوز بالشهادة التي طالما انتظرها الإمام.. كان ذلك في فجر ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك (سنة 40 هـ).

وشاء القدر أن يكون علي تلك الليلة ضيف ابنته زينب، وأن ينطلق للشهادة من بيتها.. وتسجل لنا روايات التاريخ بعض اللقطات عن تلك الليلة الخطيرة والساعات الحساسة في بيت العقيلة زينب.

فقد كان الإمام يفطر في شهر رمضان ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند عبدالله بن جعفر زوج زينب ابنته لأجلها [6] .

وكانت ليلة التاسع عشر من رمضان حيث يتناول الإمام افطاره عند ابنته زينب كما تشير الي ذلك بعض روايات (بحار الأنوار)، وإن كانت بعض الروايات تقول إنه كان عند ابنته أم كلثوم، وحسب تحقيقات العلامة الشيخ جعفر النقدي فإنه غالباً ما يطلق علي زينب الكبري أم كلثوم في لسان الروايات [7] .

ولاحظت السيدة زينب أن أباها تلك الليلة كان في وضع استثنائي، وحال لم تعهده منه، تقول:

لم يزل أبي تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، ثم يخرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء وينظر الكواكب وهو يقول: «والله ما كَذبت ولا كُذبت وانها الليلة التي وعدت بها.. هي والله الليلة التي وعدني بها حبيبي رسول الله».


ثم يعود الي مصلاه ويقول: «اللهم بارك لي في الموت، اللهم بارك لي في لقائك» ويكثر من قول «انا لله وانا اليه راجعون، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.. ويستغفر الله كثيراً».

تقول السيدة زينب: فلما رايته في تلك الليلة قلقاً متململاً كثير الذكر والأستغفار أرقت معه ليلتي.. وقلت: يا أبتاه مالي اراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟ يا أبا مالك تنعي نفسك؟.

قال: بنيّة قد قرب الأجل وانقطع الأمل.

قالت: فبكيت: فقال لي: يا بنيّة لا تبكي فإني لم أقل لك ذلك الا بما عهد اليّ النبي (صلي الله عليه وآله).

ثم انه نعس وطوي ساعة ثم استيقظ من نومه، وقال: يا بنيّة اذا قرب الاذان فاعلميني.. ثم رجع الي ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع الي الله (سبحانه وتعالي).

قالت: فجعلت أرقب الأذان فلما لاح الوقت أتيته ومعي اناء فيه ماء، ثم أيقظته، فأسبغ الوضوء، وقام ولبس ثيابه، وفتح بابه ثم نزل الي الدار وكان في الدار أوزٌ قد اُهدين الي أخي الحسين (عليه السلام)، فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن، وصحن في وجهه، ولم يحدث ذلك من قبل، فقال (عليه السلام):

«لا اله الا الله صوارخ تتبعها نوايح وفي غداة غد يظهر القضاء.

فقلت: يا أبتاه هكذا تتطير؟

قال: يا بنية ما منا أهل البيت من يتطير ولا يتطير به، ولكن قول جري علي لساني، ثم قال:

يا بنية بحقي عليك الا ما أطلقتيه، وقد حبست ما ليس له لسان، ولا يقدر علي الكلام، اذا جاع أو عطش، فأطعميه واسقيه، والا خلي سبيله يأكل من


حشائش الأرض.

فلما وصل الي الباب فعالجه ليفتحه، فتعلق الباب بمئزره فانحل ميزره حتي سقط، فأخذه وشدّه وهو يقول:



أشدد حيازيمك للموت

فإن الموت لاقيكا



ولا تجزع من الموت

اذا حــل بناديكا



كما أضحكك الدهر

كذاك الدهر يبكيكا



ثم قال: اللهم بارك لنا في الموت، اللهم بارك لي في لقائك.

قالت: وكنت أمشي خلفه فلما سمعته يقول ذلك، قلت: واغوثاه يا أبتاه أراك تنعي نفسك منذ الليلة!!.

قال: يا بنية ما هو بنعاء ولكنها دلالات وعلامات للموت يتبع بعضها بعضاً.. ثم فتح الباب وخرج [8] .

وما هي الا فترة بسيطة من الوقت واذا بالسيدة زينب تسمع نعي أبيها علي حيث ضربه عبد الرحمن بن ملجم من أتباع الخوارج بالسيف علي هامته حين رفع رأسه من السجدة الأولي من الركعة الأولي لصلاة الصبح، ووقع الإمام علي في محرابه صريعاً قائلاً: «فزت ورب الكعبة».

ونقل الإمام الي داره حيث فارقت روحه الحياة بعد يومين من اصابته أي في الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك.

وقُبيل وفاته عرق جبينه فجعل يمسح العرق بيده، فقالت السيدة زينب: يا ابه أراك تمسح جبينك؟.

قال: يا بنية سمعت جدك رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول: «إن


المؤمن إذا نزل به الموت، ودنت وفاته، عرق جبينه، كاللؤلؤ الرطب، وسكن أنينه».

فقامت زينب والقت بنفسها علي صدر ابيها وقالت: يا أبه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء وقد أحببت أن أسمعه منك.

فقال: يا بنية، الحديث كما حدثتك أم أيمن، وكأني بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد، خاشعين، تخافون أن يتخطفكم الناس فصبراً صبراً.

وهكذا ودعت السيدة زينب أباها علياً، ورزئت بفقده، ولك أن تتصور مدي الحزن والألم الذي أحاط بها بعد أن فارقت أباها الذي كان ملئ حياتها ووجودها، وكانت متعلقة به أشد التعلق كما كان يحبها أشد الحب.

ولكن كما قال أبوها علي عند فقده أمها الزهراء:



وكل الذي دون الفراق قليل

لكل اجتماع من خليلين فرقة



دليل علي أن لا يدوم خليل

وان افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ




پاورقي

[1] (نهج البلاغة) الإمام علي، الخطبة رقم: 27.

[2] المصدر السابق.

[3] المصدر السابق، الخطبة رقم: 123.

[4] المصدر السابق، الخطبة رقم: 171.

[5] المصدر السابق، الخطبة رقم: 156.

[6] (بحار الأنوار) المجلسي ج 41، ص 300.

[7] (زينب الکبري) جعفر النقدي ص 17 ـ 18 ـ 25 ـ 38.

[8] (علي من المهد إلي اللحد) القزويني ص 559.