بازگشت

اقتراح الطرماح


و نا أمر مهم جدا، يتمثل باقتراح قدمه أحد أفراد تلك المجموعة و هو الطرماح بن عدي الطائي، الذي كان دليلا لمؤمني الكوفة في الطريق و هو ممن أخلصوا الولاء للرسول الأعظم و آله الطاهرين صلي الله عليه و عليهم، فتحدث مع الامام و أخبره بما رآه من تجهيزات العدو للحرب و اعداد المحاربين، قائلا قبل أن يقترح: «والله اني لأنظر فما أري معك أحدا، و لو لم يقاتلك الا هولاء الذين أراهم ملازمين لك (مع الحر) لكان كفي بهم!. فكيف و قد رأيت قبل خروجي من الكوفة اليك اليوم أن ظهر الكوفة و فيه من الناس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعا أكثر منه فسألت عنهم فقيل: اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرحون الي الحسين، فانشدك الله ان قدرت علي ألا تقدم اليهم شبرا [1] .. «ثم طرح الاقتراح بالذهاب الي قبيلة طي، عند جبلي: أجا و سلمي، و تكفل للامام بعشرين الف طائي يضربون بين يديه قائلا فيما قال:

«فان أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به حتي تري من رأيك و يستبين لك ما أنت صانع، فسر حتي انزلك مناع جبلنا الذي يدعي أجا... ثم قال: فأسير معك حتي أنزلك القرية، ثم نبعث الي الرجال ممن بأجا و سلمي من طي ء. فوالله لا تأتي عليك عشرة أيام حتي تأتيك طي ء رجالا و ركبانا.. و أضاف أيضا: «ثم أقم فينا ما بدالك، فان هاج هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي [2] .. «

و هكذا ألقي الاقتراح ببساطه و ارتجاليه.. و تبدو من الطرماح شطحة


ملحوظة بقوله: «... حتي تري من رأيك و يستبين لك ما أنت صانع..» فالامام يدرك محتملات ما يقع و ما ينبغي له في كل خطوة و كل مرحلة أن يصنع..

ان لذلك الاقتراح الكبير من التقيم و الايجابيات ما لا ينكر. بيد أن تبنيه و العمل و فقه لا يحظي بالتقييم و الايجابيات في ذلك الظرف الراهن، و لو كانت تجرد الافادة منه ولكن في ظرف آخر غير متوفر قط. فما دواعي الاعراض عن عشرين ألف سيف طائي و لماذا رفض الاقتراح؟؟؟ انه لا بد من سلبيات و عدم مهيئات و نحن نجيب بما يلي:

أولا: ما برح الجيش الأموي يلازم سير المسيرة. فلا يمكن الانصراف، و اذا أمكن فبمقابل اصطدام حتمي خاسر، و مقابل تكاليف اشتباك لم يكن حان حينه بعد.. ولو سكت الحر الرياحي، أو لم يأمر بالهجوم، لتحركت عناصر من الجيش أموية مجرمة تعارض الحر في صمته و سكوته و تجاهله..

ثانيا: ان مباشرة العمل وفق ما يمليه الاقتراح، سيحتاج الي مدة زمنية و وقت غير هين، كما هو صريح كلام الطرماح «.. لا تأتي عليك عشرة أيام» و قد تكون أكثر. فتقدير الطرماح لا يعدو كونه مجرد تقدير.. في حين أن الجهاد يتطلب اقداما لا سيما و الكوفة علي مرمي البصر..

ثالثا: بتقدير الموافقة و الذهاب الي هناك، فلسوف يزحف جيش ابن زياد المجهز، و يتسني له مباغتة مواطن طي ء والركب الحسيني، بعسكر جرار، فلا يدعون فرصة للتعبئة و الاعداد، لا سيما والقوة الأموية علي استعداد كامل كما صرح الطرماح: بأنه رأي «.. ظهر الكوفة مملؤا رجالا..» و عليه فستضرب طي ء مع الركب، في عقر دارها..

رابعا: سواء باغت العدو أم لم يباغت، فان طيئا بالذات تحتاج الي عمليات تصفية و تمحيص، لتقديم النخبة الصابرة، و انتقاء الرجال الصديقين ضمانا لسلوك رجال الثورة الطريق المستقيم بلا تشويه و لا شوائب و لئلا تحدث


هزائم و تراجعات تؤدي الي اسقاط الاعتبارات الخاصة والتي نالتها الثورة الخالدة بجهادها المجيد، و هي بمعزل عن حشد الحشود في الميدان الحربي.

خامسا: تجنب القيادة الحسينية لعمليات الالزام، فهي لا تريد أن تلزم قبيلة طي ء و تشدها بالعهود و المواثيق و البيعة، و غير ذلك من العمليات الروتينية. و قد رأينا منهج الامام في تحاشي هذه العمليات مع أهل مكة رغم اقتراحات البعض. و لم يعامل كل من سار من مكة بذلك أيضا ممن تراجعوا و هم كثيرون جدا. بل أبعد الجميع عن المخادعات و عن أن «يقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم» لمعه..

سادسا: لو التقي الجيشان و دارت رحي الحرب علي أهل الحق لكان مقتل الامام و كل آل الرسول (ص) و أنصارهم، شيئا عاديا بناء علي أن المعركة دارت بين طرفين عسكريين متكافئي القوي و لقيل: ان الجيش الأموي لم يقصد قتل ابن رسول الله الحسين أو أبناء النبي (ص)، ولكنهم كانوا ضحية لقاء عسكري حامي الوطيس فنالتهم سيوف المعمعة. و بذا فلا وجه يبقي أو صفة للمطالبة بما هدفت اليه الثورة العملاقة..

سابعا: نظرا لأن الغاية المقدسة كانت اعادة ارساء أوتاد مبادي ء الاسلام، و ترسيخ اثباتها، سواء قتل الامام أم لا، و نظرا لعدم اعتبار امساك زمام الحكم هدفا أساسيا، ثم بناء علي التوطين علي الاستشهاد مع العلم به، فان الذهاب الي طي ء، ثم المال الي القتل الرخيص أولا و أخيرا يكون بلا جدوي و بلا طائل، و سيقول من يزعم كذبا علي الله: ان الحسين ما أراد تبيان الحق بقدر ما أراد سلطة سياسية بدلالة استعانته برجال قبيلة طي ء و هم ألوف مؤلفة، قد توصل من أراد الي مبتغاه من السلطة.

ثامنا: استهدف الامام بقيادته الحكيمة، الابقاء علي صفة رجال الجهاد، و الحرص علي بالغ الأصالة الرسالية. فتجنب استخدام القوي القبلية و لم ينفذ من خلال الصراع القبلي القائم يومذاك، الأمر الذي يودي الي أن تصطبغ


الثورة بصبغة قبلية، فيتسني لأهل التمويه أن يزعموا أن الحسين قد استخدم الصراع القبلي ليتوصل الي الحكم. أو يقولون انه استخدام الصراع القبلي لا المبدئي الرسالي، و هذا يفقد الثورة المباركة جليل معناها.. و بمناسبة ذكر اقصاء النزعة القبيلة يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين:

«ان الثورة عمل سياسي، و قد كان من الطبيعي جدا أن يتم هذا العمل السياسي وفقا لأصول العمل السياسي التي كانت سائدة في المجتمع آنذاك. و ذلك بأن تكون الثورة جمهورها من خلال منطق الصراع القبلي، و أن تتعامل مع هذا الجمهور من خلال هذا المنطق..» ولكنهم لم يندفعوا قبليا و انما عقائديا.. «ولكن ما حدت كان علي خلاف ذلك، فقد تكون جمهور الثورة علي مهل نتيجة لوعي الواقع علي ضوء المبدأ الاسلامي. و قد تعاملت الثورة مع هذا الجمهور من خلال قناعاته العقيدية، ل من خلال غرائزه القبلية [3] . «

فما أسمي رجال الحسين!!! و ما أروع الكيفية التي جاؤوا بها و النوعية التي هم عليها!!!

فذلك كله نراه يقلل من شأن اقتراح الطرماح.. و لعل ثمة أسباب أخري.. بل ان للامام ما يري، فهو الأعلم و هو الأدري. فهو يري بأن عهده ما زال مع أهل الكوفة و هو يريد أن يفي بوصوله اليهم كي يلقي عليهم الحجة. و ما الموت الا في الله والله و علي ملة رسول الله (ص).. أما كلمته الجوابية للطرماح بن عدي الطائي فهي:

«جزاك الله و قومك خيرا. انه قد كان بيننا و بين هولاء القوم (الكوفيين) قولا لسنا نقدر معه علي الانصراف [4] فان يدفع الله عنا فقديما ما أنعم علينا و كفي. و ان يكن ما لا بد منه ففوز و شهادة ان شاء الله [5]


و ما زال الركب يواصل سيره، و ما برح جيش الرياحي يسير بعيدا أو بمحاذاته.

أما الطرماح فقد تبني وظيفة الدليل للركب، ثم تصدر المسيرة بنشيده الشجاع و حدوده الجميل:



يا ناقتي لا تذعري من زجري

وأمضي بنا قبل طلوع الفجر



بخير فتيان و خير سفر

آل رسول الله أهل الفخر



السادة البيض الوجوه الزهر

الطاعنين بالرماح السمر



الضاربين بالسيوف البتر

حتي تحلي بكريم النجر



بما جد الجد رحيب الصدر

أتي به اله لخير أمر



عمره الله بقاء الدهر

يا مالك النفع معا و الضر



أيد حسينا سيدي بالنصر

علي الطغاة من بقايا الكفر



علي اللعينين سليلي صخر

يزيد لا زال حليف الخمر



والعود و الطنج معا والزمر

وابن زياد العهر و ابن العهر [6] .



و سمع الامام القائد، فعقب بمنطق الفتح و قوة العزم و الثقة بالله العزيز العظيم بقوله:

«أما والله اني لأرجو أن يكون خيرا ما أراد الله بنا، قتلنا أم ظفرنا [7] ..»


و قيل ان الطرماح بن عدي هذا هو من جملة شهداء كربلاء، أي أنه قد أسهم في الجهاد الحسيني، و قيل انه رجع الي أهله علي.مل العودة للنصرة. و كان رجوعه بسبب ما كان معه من ميرة و بضائع سبق أن اشتراها لأهله من الكوفة و أراد ايصالها لهم، فاستأذن الامام القائد بقول روي نفسه نصه:

«قلت له: دفع الله عنك شر الجن و الانس، اني قد اشتريت لأهلي من الكوفة ميرة، و معي نفقة لهم، فآتيهم فأضع ذلك فيهم، ثم أقبل اليك ان شاء الله، فان ألحقك فواله لأكونن من أنصارك قال الامام: فان كنت فاعلا فعجل رحمك الله... قال الطرماح: فعلمت أنه مستوحش الي الرجال... الي آخر الرواية [8] . التي تفيد أن الطرماح وافي نهاية المطاف و لم يدرك وقت الجهاد، اذ تحرك نحو الحق فبلغه و قد صرع الامام الحسين و آله و صحبه.

هذه الحالة - حالة استئذان الطرماح من الامام، و ذهابه بعد السماح - تعطينا اشارة من الاشارات الكبري، و هي تشكل عينة من عينات المواقف النزيهة المؤكدة علي جمال صورة سير رجال الامام و روعة مسيرة أنصاره، اذ لم تضم الجبهة الجهادية فردا واحدا من المجبورين، ففي الوقت الذي كان بمقدور الامام أن يثني الطرماح عن عزمه في الذهاب، وجدناه يأذن له و لا يمنعه لأنه (ع) يحرص علي الكيف لا الكم. ذلك لأن الامام استهدف استقطاب النوعيات لا جمع الكميات و تراكم الأجساد البشرية، و سار وفق منهجية آثرت تسجيل اسم المنتسب و ادراج رقم المنتسب في القائمة الجهادية الثورية علي أساس القيمة النوعية، و الرقي العقائدي الذي يبلغه الرجل أي رجل كان فلا حاجة للضعاف والمترددين.. و عليه فقد يكون الطرماح يعيش حالة انهيار نفسي برره بايصاله الميرة الي أهله، و لربما حدثت له هزيمة معنوية. لذا خوله الامام


بالذهاب علي أن يأتي كما وعد: «فان كنت فاعا فعجل رحمك الله.» فالامام بغير حاجة للانقاذ علي كل حال، و لا يريد الكم كما ظن الطرماح بقوله «فعلمت أنه مستوحش الي الرجال.» كلا، فهو الذي سبق و أن قال: «أما والله. اني لأرجو أن يكون خيرا ما أراد الله بنا، قتلنا أم ظفرنا.».


پاورقي

[1] تاريخ الطبري، ج 4 ص 306 و ابن الاثير ج 3 ص 281 و ما في هذا المعني عن ابن کثير في البداية و النهاية ج 8 ص 174 و أعيان الشيعة ج 4 ق 1 ص 193 و 194.

[2] تاريخ الطبري، ج 4 ص 307.

[3] انصار الحسين ص 180.

[4] الطبري، ج 4 ص 307.

[5] أعيان الشيعة ج 4 ق 1 ص 194 و تعقيبا علي منطق الختام الحسيني حيث يقول: «و ان يکن ما لا بد منه فقوز و شهادة، ان شاء الله.» قوية لمعالم الطريق، فلا يتعثر المجاهد المؤمن بل يمضي قدما. و فيه کشف صريح لما يرتقب الرکب من أکثر العواقب سلبية و أسوأ الاحتمالات. فلا يغشن الجبان نفسه و لا يخدعن النفعيون أنفسهم... فليتراجعوا لأنه مجد الاستشهاد. و ليبتهج رجالات الجهاد و الثبات، حيث بلوغ درجات الفتح «ففوز و شهادة».

[6] ذکرته جملة من کتب التاريخ باختلافات ملحوظة و تفاوت جلي. أما الأبيات التي أثبتناها فهي عن کتاب (حياة الامام الحسين).

[7] تاريخ الطبري ج 4 ص 306 و ذکر الطبري أنهم کانوا يحدون با قبل وصولهم للحسين، و لما: انتهوا اليه أنشدوه الأبيات، و لعل الطرماح أنشدها مع تغيير حينما صار دليلا للرکب الحسيني فيما بعد.

[8] تاريخ الأمم و الملوک للطبري ج 4 ص 407 و الرواية مسندة الي جميل بن مرثد عن الطرماح شخصيا، و ادلاؤه بها دليل عدم ادراکه ليوم عاشوراء و عدم استشهاده..